فصل: (فَصْلٌ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ):

(وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِي الِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ، وَمَا اصْطَادَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ احْتَطَبَهُ فَهُوَ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ)، وَعَلَى هَذَا الِاشْتِرَاكُ فِي أَخْذِ كُلِّ شَيْءٍ مُبَاحٍ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الْوَكَالَةِ، وَالتَّوْكِيلُ فِي أَخْذِ الْمَالِ الْمُبَاحِ بَاطِلٌ لِأَنَّ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِهِ فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُمَا بِالْأَخْذِ وَإِحْرَازِ الْمُبَاحِ، فَإِنْ أَخَذَاهُ مَعًا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعْمَلْ الْآخَرُ شَيْئًا فَهُوَ لِلْعَامِلِ، وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا وَأَعَانَهُ الْآخَرُ فِي عَمَلِهِ بِأَنْ قَلَعَهُ أَحَدُهُمَا وَجَمَعَهُ الْآخَرُ، أَوْ قَلَعَهُ وَجَمَعَهُ وَحَمَلَهُ الْآخَرُ فَلِلْمُعِينِ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ ثَمَنِ ذَلِكَ، وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ):
وَجْهُ تَقْدِيمِ الصَّحِيحَةِ عَلَى الْفَاسِدَةِ ظَاهِرٌ.
قولهُ: (وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِي الِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ) وَكَذَا الِاحْتِشَاشُ وَالتَّكَدِّي وَسُؤَالُ النَّاسِ (وَمَا اصْطَادَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ احْتَطَبَهُ) أَوْ أَصَابَهُ مِنْ التَّكَدِّي (فَهُوَ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ، وَعَلَى هَذَا الِاشْتِرَاكُ فِي كُلِّ مُبَاحٍ) كَأَخْذِ الْحَطَبِ وَالثِّمَارِ مِنْ الْجِبَالِ كَالْجَوْزِ وَالتِّينِ وَالْفُسْتُقِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَا فِي نَقْلِ الطِّينِ وَبَيْعِهِ مِنْ أَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ الْحَصَى أَوْ الْمِلْحِ أَوْ الثَّلْجِ أَوْ الْكُحْلِ أَوْ الْمَعْدَنِ أَوْ الْكُنُوزِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يُلَبِّنَا مِنْ طِينٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ وَيَطْبُخَا آجُرًّا، وَلَوْ كَانَ الطِّينُ مَمْلُوكًا أَوْ سَهْلَةَ الزُّجَاجِ فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا وَيَطْبُخَا وَيَبِيعَا جَازَ وَهُوَ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ كَالصَّبَّاغِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «اشْتَرَكْنَا أَنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ، وَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ فَأَشْرَكَ بَيْنَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
أُجِيبُ بِأَنَّ الْغَنِيمَةَ مَقْسُومَةٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَشْتَرِكَ هَؤُلَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِخُصُوصِهِمْ، وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ تَنْفِيلٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ قَدَّرَ مَا يَخُصُّهُمْ، وَعَلَى قول بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ شَاءَ ظَاهِرٌ.
قولهُ: (لِأَنَّ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ بِهِ) أَيْ بِأَخْذِ الْمُبَاحِ (غَيْرُ صَحِيحٍ) لِعَدَمِ مِلْكِهِ وَوِلَايَتِهِ (وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُهُ) أَيْ يَمْلِكُ الْمُبَاحَ (بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَصْلُحُ الْوَكِيلُ نَائِبًا) عَنْ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إثْبَاتُ وِلَايَةٍ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً لِلْوَكِيلِ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْوَكَالَةُ لَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ.
وَاسْتَشْكَلَ بِالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ أَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ قَبْلَ التَّوْكِيلِ وَبَعْدَهُ.
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ قَادِرًا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ وَهُوَ شَغْلُ ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ لَوْلَا الْوَكَالَةُ فِيهَا تَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ أَنْ يَشْغَلَ ذِمَّتَهُ بِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِمَا يُوجِبُ حَقًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إثْبَاتِهِ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ فِي التَّوْكِيلِ بِخِلَافِهِ، وَإِنَّمَا الْوَجْهُ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ سَبَبَ مِلْكِ الْمُبَاحِ سَبْقَ الْيَدِ إلَيْهِ، فَإِذَا وَكَّلَهُ بِهِ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ سَبَقَ مِلْكُهُ لَهُ مِلْكَ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ قِيلَ عَلَيْهِ هَذَا إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِقَصْدِهِ لِنَفْسِهِ، فَأَمَّا إذَا قَصَدَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ فَلِمَ لَا يَكُونُ لِلْغَيْرِ؟ يُجَابُ بِأَنَّ إطْلَاقَ نَحْوِ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ» لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ قَصْدٍ وَقَصْدٍ.
قولهُ: (فَإِنْ أَخَذَاهُ جَمِيعًا) يَعْنِي ثُمَّ خَلَطَاهُ وَبَاعَاهُ قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى كَيْلِ أَوْ وَزْنِ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَزْنِيًّا وَلَا كَيْلِيًّا قُسِّمَ عَلَى قِيمَةِ مَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُ مَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا صُدِّقَ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الِاكْتِسَابِ، وَكَانَ الْمُكْتَسَبُ فِي أَيْدِيهِمَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيُقْبَلُ قولهُ، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِلَافَ الظَّاهِرِ (وَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعْمَلْ الْآخَرُ شَيْئًا فَهُوَ لِلْعَامِلِ) لِوُجُودِ السَّبَبِ مِنْهُ (وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا وَأَعَانَهُ الْآخَرُ بِأَنْ قَلَعَهُ أَحَدُهُمَا، وَجَمَعَهُ الْآخَرُ أَوْ قَلَعَهُ أَحَدُهُمَا وَجَمَعَهُ وَالْآخَرُ حَمَلَهُ فَلِلْمُعِينِ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ ثَمَنِ ذَلِكَ) وَقولهُ (وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ) يَعْنِي كِتَابَ الشَّرِكَةِ مِنْ الْمَبْسُوطِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَ قول كُلٍّ مِنْهُمَا، فَوَجْهُ قول مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُسَمَّى مَجْهُولٌ إذْ لَمْ يَدْرِ أَيَّ نَوْعٍ مِنْ الْحَطَبِ يُصِيبَانِ، وَهَلْ يُصِيبَانِ شَيْئًا أَوْ لَا، وَالرِّضَا بِالْمَجْهُولِ لَغْوٌ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ رِضَاهُ بِالنِّصْفِ لِلْجَهَالَةِ، وَصَارَ مُسْتَوْفِيًا مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ.
وَأَبُو يُوسُفَ يَقول بِقول مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا لَمْ يُصِيبَا شَيْئًا، وَفِيمَا إذَا أَصَابَا أَنَّهُ إنْ كَانَ أَجْرُ مِثْلِهِ أَكْثَرَ فَهُوَ قَدْ رَضِيَ بِمَا دُونَهُ مِنْ النِّصْفِ، وَكَوْنُهُ مَجْهُولًا فِي الْحَالِ فَهِيَ حَالَةٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ عَلَى عَرَضِ أَنْ يَصِيرَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْجَمْعِ وَالْبَيْعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُصِيبَا شَيْئًا فَإِنَّ الْمُسَمَّى لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ لِجَهَالَتِهِ بِالتَّفَاحُشِ حَالًا وَمَآلًا فَحِينَئِذٍ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ.
وَقولهُ (لَا يُجَاوَزُ بِهِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.
وَقولهُ (نِصْفُ ثَمَنِ ذَلِكَ) بِالرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ النَّائِبُ عَنْ الْفَاعِلِ.
فَرْعٌ:
لَهُمَا كَلْبٌ فَأَرْسَلَاهُ فَمَا أَصَابَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا وَأَرْسَلَاهُ جَمِيعًا كَانَ مَا أَصَابَهُ لِمَالِكِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ رَاوِيَةٌ يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ فَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ، وَالْكَسْبُ كُلُّهُ لِلَّذِي اسْتَقَى، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الرَّاوِيَةِ إنْ كَانَ الْعَامِلُ صَاحِبَ الْبَغْلِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ الرَّاوِيَةِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْبَغْلِ) أَمَّا فَسَادُ الشَّرِكَةِ فَلِانْعِقَادِهَا عَلَى إحْرَازِ الْمُبَاحِ وَهُوَ الْمَاءُ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّ الْمُبَاحَ إذَا صَارَ مِلْكًا لِلْمُحْرِزِ وَهُوَ الْمُسْتَقِي، وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْبَغْلُ أَوْ الرَّاوِيَةُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ رَاوِيَةٌ يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ وَمَا تَحَصَّلَ بَيْنَهُمَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ) اعْلَمْ أَنَّ الرَّاوِيَةَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْجَمَلُ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَاءُ سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَرْوِيهِ، وَيُقَالُ رَوَيْت لِلْقَوْمِ: إذَا سَقَيْت لَهُمْ، وَكَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى قِيلَ لِلْمَزَادَةِ وَهِيَ الْجُلُودُ الثَّلَاثَةُ الْمَصْنُوعَةُ لِنَقْلِ الْمَاءِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا جَمَلٌ وَلِلْآخَرِ بَغْلٌ فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ كُلًّا يُؤَجِّرُ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ فَمَا رُزِقَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ مَعْنَى هَذَا أَنَّ كُلًّا قَالَ لِصَاحِبِهِ بِعْ مَنَافِعَ دَابَّتِك لِيَكُونَ ثَمَنُهُ بَيْنَنَا وَمَنَافِعَ دَابَّتِي عَلَى أَنَّ ثَمَنَهُ بَيْنَنَا، وَلَوْ صَرَّحَا بِهَذَا كَانَتْ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً ثُمَّ إنْ أَجَرَاهُمَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً فِي عَمَلٍ مَعْلُومٍ قُسِّمَ الْأَجْرُ عَلَى مِثْلِ أَجْرِ الْبَغْلِ وَمِثْلِ أَجْرِ الْجَمَلِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمَّا فَسَدَتْ وَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ لِانْعِقَادِهَا عَلَى مَنَافِعَ مَعْلُومَةٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ كَانَ الْأَجْرُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا، كَذَلِكَ كَمَا يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَا الْحُمُولَاتِ الْمَعْلُومَةَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَمْ يُؤَاجِرْ الْبَغْلَ وَالْجَمَلَ كَانَتْ صَحِيحَةً لِأَنَّهَا شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَا يُعْتَبَرُ زِيَادَةُ حَمْلِ الْجَمَلِ عَلَى حَمْلِ الْبَغْلِ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ زِيَادَةُ عَمَلِ أَحَدِهِمَا كَصَبَّاغَيْنِ لِأَحَدِهِمَا آلَةُ الصَّبْغِ وَلِلْآخَرِ بَيْتٌ يَعْمَلُ فِيهِ اشْتَرَكَا عَلَى تَقَبُّلِ الْأَعْمَالِ لِيَعْمَلَا بِتِلْكَ الْآلَةِ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ.
وَإِنْ أَجَّرَ الْبَعِيرَ أَوْ الْبَغْلَ بِعَيْنِهِ كَانَ كُلُّ الْأَجْرِ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ، فَلَوْ أَعَانَهُ الْآخَرُ عَلَى التَّحْمِيلِ وَالنَّقْلِ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوَزُ نِصْفُ الْأَجْرِ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ، وَبَالِغًا مَا بَلَغَ عَلَى قول مُحَمَّدٍ، وَكَذَا لَوْ دَفَعَ دَابَّتَهُ إلَى رَجُلٍ لِيُؤَاجِرَهَا وَمَا أَطْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَانَ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِمَالِكِ الدَّابَّةِ، وَكَذَا فِي السَّفِينَةِ وَالْبَيْتِ لِمَا بَيَّنَّا، إذْ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ قَالَ بِعْ مَنَافِعَ دَابَّتِي لِيَكُونَ الْأَجْرُ بَيْنَنَا، ثُمَّ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ عَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ بِأَمْرِهِ، وَلِلْعَاقِدِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَعْمَلَ مَجَّانًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَابَّةً لِيَبِيعَ عَلَيْهَا طَعَامًا لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَإِنَّ الشَّرِكَةَ فَاسِدَةٌ وَالرِّبْحَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ وَلِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَجْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ الدَّابَّةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا، وَالرِّبْحُ لِلْعَامِلِ وَهُوَ صَاحِبُ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ مَالِهِ.
وَعَلَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ لِهَذَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ مَزَادَةٌ فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَسْتَقِيَا الْمَاءَ فِيهَا عَلَى الْبَغْلِ فَالشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ قول الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَالْأَجْرُ كُلُّهُ لِلَّذِي اسْتَقَى، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْمَزَادَةِ إنْ كَانَ صَاحِبَ الْبَغْلِ، وَأَجْرُ مِثْلِ الْبَغْلِ إنْ كَانَ صَاحِبَ الْمَزَادَةِ.
وَجَمْعُ الْمَزَادَةِ مَزَادٌ وَمَزَايِدٌ.
(أَمَّا فَسَادُ الشَّرِكَةِ فَلِانْعِقَادِهَا عَلَى إحْرَازِ الْمُبَاحِ وَهُوَ) نَقْلُ (الْمَاءِ)، وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ صَارَ مِلْكًا لِلْمُحْرِزِ، وَهُوَ الْمُسْتَقِي وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مِلْكِ الْغَيْرِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ الْمِثْلِ.

متن الهداية:
(وَكُلُّ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ فَالرِّبْحُ فِيهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالِ، وَيَبْطُلُ شَرْطُ التَّفَاضُلِ) لِأَنَّ الرِّبْحَ فِيهِ تَابِعٌ لِلْمَالِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، كَمَا أَنَّ الرِّيعَ تَابِعٌ لِلْبَذْرِ فِي الزِّرَاعَةِ، وَالزِّيَادَةُ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالتَّسْمِيَةِ، وَقَدْ فَسَدَتْ فَبَقِيَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَكُلُّ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ فَالرِّبْحُ فِيهَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ إلَخْ) كَأَلْفٍ لِأَحَدِهِمَا مَعَ أَلْفَيْنِ لِلْآخَرِ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَإِنْ كَانَا شَرَطَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بَطَلَ ذَلِكَ الشَّرْطُ، وَلَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِثْلُ مَا لِلْآخَرِ وَشَرَطَا الرِّبْحَ أَثْلَاثًا بَطَلَ شَرْطُ التَّفَاضُلِ وَانْقَسَمَ نِصْفَيْنِ بَيْنَهُمَا (لِأَنَّ الرِّبْحَ فِي) وُجُودِهِ (تَابِعٌ لِلْمَالِ)، وَإِنَّمَا طَابَ عَلَى التَّفَاضُلِ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ بَطَلَتْ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ فَيَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ الْمُوَلَّدِ لَهُ، وَنَظِيرُهُ الْبِزْرُ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالرِّيعُ الزِّيَادَةُ.

متن الهداية:
(وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ) لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا لِتَتَحَقَّقَ الشَّرِكَةُ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَكَذَا بِالِالْتِحَاقِ مُرْتَدًّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَمَا إذَا عَلِمَ الشَّرِيكُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَسَخَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ وَمَالُ الشَّرِكَةِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ عَزْلٌ قَصْدِيٌّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ) مُفَاوَضَةً كَانَتْ أَوْ عِنَانًا إذَا قَضَى بِلَحَاقِهِ عَلَى الْبَتَاتِ حَتَّى لَوْ عَادَ مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ انْقَطَعَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ بِلَحَاقِهِ فَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَطَعَتْ، وَلَوْ لَمْ يَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ انْقَطَعَتْ الْمُفَاوَضَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالْبُطْلَانِ حَتَّى أَسْلَمَ عَادَتْ الْمُفَاوَضَةُ، وَإِنْ مَاتَ بَطَلَتْ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ، وَإِذَا انْقَطَعَتْ الْمُفَاوَضَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ هَلْ تَصِيرُ عِنَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؟ لَا.
وَعِنْدَهُمَا تَبْقَى عِنَانًا ذَكَرَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ.
وَإِنَّمَا بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ: أَيْ مَشْرُوطٌ ابْتِدَاؤُهَا وَبَقَاؤُهَا بِهَا ضَرُورَةً فَإِنَّهَا لَا يَتَحَقَّقُ ابْتِدَاؤُهَا إلَّا بِوِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي مَالِ الْآخَرِ، وَلَا تَبْقَى الْوِلَايَةُ إلَّا بِبَقَاءِ الْوَكَالَةِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ انْدَفَعَ السُّؤَالُ الْقَائِلُ الْوَكَالَةُ تَثْبُتُ تَبَعًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ التَّبَعِ بُطْلَانُ الْأَصْلِ وَبُطْلَانُهَا بِالِالْتِحَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الْبُطْلَانِ بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ الشَّرِيكُ بِمَوْتِ شَرِيكِهِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ حَتَّى لَا تَنْفُذَ تَصَرُّفَاتُ الْآخَرِ عَلَى الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَإِنَّ مِلْكَهُ يَتَحَوَّلُ شَرْعًا إلَى وَارِثِهِ عَلِمَ مَوْتَهُ أَوْ لَا فَلَا يُمْكِنُ تَوَقُّفُهُ، وَقَدْ نَفَّذَهُ الشَّرْعُ حَيْثُ نَقَلَ الْمِلْكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَسَخَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ وَمَالُهَا دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ قَصْدِيٌّ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ فَيُشْتَرَطُ عِلْمُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَتَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا كَانَ مَالُ الشَّرِكَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عُرُوضًا فَلَا رِوَايَةَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ فِي الْمُضَارَبَةِ وَهِيَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا نَهَى الْمُضَارِبَ عَنْ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ صَحَّ نَهْيُهُ غَيْرَ أَنَّهُ يَصْرِفُ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ إنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ الشَّرِكَةِ دَنَانِيرَ وَعَكْسُهُ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ عُرُوضًا لَمْ يَصِحَّ فَجَعَلَ الطَّحَاوِيُّ الشَّرِكَةَ كَالْمُضَارَبَةِ فَقَالَ لَا تَنْفَسِخُ، وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ قَالُوا: تَنْفَسِخُ الشَّرِكَةُ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ عُرُوضًا وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ بِأَنَّ مَالَ الشَّرِكَةِ فِي أَيْدِيهِمَا مَعًا وَوِلَايَةُ التَّصَرُّفِ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَيَمْلِكُ كُلٌّ نَهْيَ صَاحِبِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ نَقْدًا كَانَ أَوْ عَرَضًا، بِخِلَافِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَمَا صَارَ عَرَضًا ثَبَتَ حَقُّ الْمُضَارِبِ فِيهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ رِبْحَهُ وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فَلَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ.
فُرُوعٌ:
إنْكَارُ الشَّرِكَةِ فَسْخٌ.
وَقولهُ لَا أَعْمَلُ فَسْخٌ، حَتَّى لَوْ عَمِلَ الْآخَرُ كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: قَالَ: أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ: أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ لِنَفْسِي فَسَكَتَ فَاشْتَرَاهَا لَا تَكُونُ لَهُ.
وَلَوْ قَالَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ فَسَكَتَ الْمُوَكِّلُ فَاشْتَرَاهَا تَكُونُ لَهُ.
ثُمَّ فَرَّقَ فَقَالَ إنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ إذَا عَلِمَ الْمُوَكِّلُ رَضِيَ أَمْ سَخِطَ، بِخِلَافِ الشَّرِيكِ فَإِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَمْلِكُ فَسْخَ الشَّرِكَةِ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ.اهـ.
وَهَذَا غَلَطٌ، وَقَدْ صَحَّحَ هُوَ انْفِرَادَ الشَّرِيكِ بِالْفَسْخِ وَالْمَالُ عُرُوضٌ وَالتَّعْلِيلُ الصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي التَّجْنِيسِ، فَإِنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَ مُوجَبِهَا إلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ، وَفِي الرِّضَا احْتِمَالٌ: يَعْنِي إذَا كَانَ سَاكِتًا، وَالْمُرَادُ بِمُوجَبِهَا وُقُوعُ الْمُشْتَرَى عَلَى الِاخْتِصَاصِ.
وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا ذُكِرَ فِي الْخُلَاصَةِ فِي ثَلَاثَةٍ اشْتَرَكُوا شَرِكَةً صَحِيحَةً عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ فَخَرَجَ وَاحِدٌ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْ النَّوَاحِي لِشَرِكَتِهِمْ فَشَارَكَ الْحَاضِرَانِ آخَرَ عَلَى أَنَّ ثُلُثَ الرِّبْحِ لَهُ وَالثُّلُثَيْنِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْحَاضِرَيْنِ وَثُلُثُهُ لِلْغَائِبِ فَعَمِلَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْمَالِ سِنِينَ مَعَ الْحَاضِرَيْنِ ثُمَّ جَاءَ الْغَائِبُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ فَاقْتَسَمُوا وَلَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ مَعَهُمْ هَذَا الرَّابِعُ حَتَّى خَسِرَ الْمَالَ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ، فَأَرَادَ الْغَائِبُ أَنْ يُضَمِّنَ شَرِيكَيْهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا وَعَمَلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ رِضًا بِالشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَخَصُّ مِنْ السُّكُوتِ الثَّابِتِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ.

.(فَصْلٌ): حكم تأدية أحد الشَّرِيكَيْنِ زَكَاةَ مَالِ الْآخَرِ:

وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِ الْآخَرِ إلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ، فَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ.
فَإِنْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالثَّانِي ضَامِنٌ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ.
وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَهَذَا إذَا أَدَّيَا عَلَى التَّعَاقُبِ، أَمَّا إذَا أَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ.
وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الْمَأْمُورُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى الْفَقِيرِ بَعْدَمَا أَدَّى الْآمِرُ بِنَفْسِهِ.
لَهُمَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَلَا يَضْمَنُ لِلْمُوَكِّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي وُسْعِهِ التَّمْلِيكَ لَا وُقُوعَهُ زَكَاةً لِتَعَلُّقِهِ بِنِيَّةِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُ مِنْهُ مَا فِي وُسْعِهِ وَصَارَ كَالْمَأْمُورِ بِذَبْحِ دَمِ الْإِحْصَارِ إذَا ذَبَحَ بَعْدَمَا زَالَ الْإِحْصَارُ وَحَجَّ الْآمِرُ لَمْ يَضْمَنْ الْمَأْمُورُ عَلِمَ أَوْ لَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْمُؤَدَّى لَمْ يَقَعْ زَكَاةً فَصَارَ مُخَالِفًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَمْرِ إخْرَاجُ نَفْسِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ الضَّرَرَ إلَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَصَلَ بِأَدَائِهِ وَعَرَّى أَدَاءَ الْمَأْمُورِ عَنْهُ فَصَارَ مَعْزُولًا عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ.
وَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ فَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَقِيلَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الدَّمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَزُولَ الْإِحْصَارُ.
وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْأَدَاءُ وَاجِبٌ فَاعْتُبِرَ الْإِسْقَاطُ مَقْصُودًا فِيهِ دُونَ دَمِ الْإِحْصَارِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ): حكم تأدية أحد الشَّرِيكَيْنِ زَكَاةَ مَالِ الْآخَرِ:
لَمَّا كَانَتْ أَحْكَامُ هَذَا الْفَصْلِ بَعِيدَةً عَنْ الشَّرِكَةِ إذْ لَيْسَتْ مِنْ أُمُورِ التِّجَارَةِ وَالِاسْتِرْبَاحِ أَفْرَدَهَا بِفَصْلٍ وَأَخَّرَهُ.
قولهُ: (وَإِذَا أَذِنَ كُلٌّ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِ إذَا حَالَ الْحَوْلُ فَحَالَ فَأَدَّى) وَقَدْ أَدَّى الْآذِنُ الْمَالِكَ ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ مَا أَدَّاهُ (عَلِمَ بِالْأَدَاءِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِأَدَائِهِ، هَكَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَبْسُوطِ.
وَنَقَلَ الْوَلْوَالِجِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَهُمَا وَإِنْ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْمَالِكِ، وَنَصَّ فِي زِيَادَاتِ الْعَتَّابِيِّ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ عَلِمَ بِأَدَائِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمَا.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ دَفَعَ مَالًا إلَى رَجُلٍ لِيُكَفِّرَ عَنْهُ فَكَفَّرَ الْآمِرُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ كَفَّرَ الْمَأْمُورُ (وَعَلَى هَذَا الْمَأْمُورُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ) وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا أَدَّيَا عَلَى التَّعَاقُبِ، فَإِنْ أَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلٌّ نَصِيبَ الْآخَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَزِيَادَاتِ الْعَتَّابِيِّ وَعَلَّلَ فِيمَا نَقَلَ عَنْ الْمَبْسُوطِ بِأَنَّ زَكَاةَ كُلٍّ مِنْهُمَا تَقَعُ بِمَا أَدَّاهُ بِنَفْسِهِ وَأَدَاؤُهُ بِنَفْسِهِ يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ تَسْلِيمٍ أَنَّ أَدَاءَهُ يَتَضَمَّنُ عَزْلَ الْوَكِيلِ وَهُوَ لَا يَنْعَزِلُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ فِيهِ.
وَجْهُ قولهِمَا فِي خِلَافِيَّةِ الْكِتَابِ أَنَّهُ أَدَّاهُ بِالْأَمْرِ وَلَا ضَمَانَ مَعَ الْأَمْرِ.
وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا أَمَرَهُ بِأَدَاءِ مَا هُوَ زَكَاةٌ.
لِأَنَّا نَقول: لَيْسَ هَذَا مِنْ وُسْعِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ زَكَاةً يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ كَنِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ مَا فِي وُسْعِهِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا الْأَدَاءُ، وَلِهَذَا لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ لِيَقْضِيَ بِهَا دَيْنًا عَلَيْهِ ثُمَّ أَدَّى الدَّافِعُ الدَّيْنَ لَا يَضْمَنُ إذَا دَفَعَ وَلَمْ يَعْلَمْ، وَصَارَ أَيْضًا كَدَمِ الْإِحْصَارِ إذَا ذَبَحَ الْمَأْمُورُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِحْصَارِ.
(وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْمُؤَدَّى) بَعْدَ أَدَائِهِ (لَمْ يَقَعْ زَكَاةً فَصَارَ مُخَالِفًا، وَهَذَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ الضَّرَرَ) بِتَنْقِيصِ الْمَالِ إلَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ الدِّينِيِّ، وَقَدْ خَلَا أَدَاؤُهُ عَنْ ذَلِكَ (فَصَارَ بِأَدَائِهِ مَعْزُولًا عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ) لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْعَزْلِ بِالْمَوْتِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، وَأَمَّا مَا الْتَزَمْتُمْ بِهِ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَقِيلَ يَمْنَعُ تَسْلِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ الْجَوَابَ فِيهِمَا، وَقِيلَ بَلْ هُوَ عَلَى الِاتِّفَاقِ.
وَالْفَرْقُ (أَنَّ الدَّمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْآمِرِ الْمُحْصَرِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَزُولَ الْإِحْصَارُ) أَدْرَكَ الْحَجَّ أَوْ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَيَفْعَلُ أَفْعَالَ فَائِتِ الْحَجِّ (وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْأَدَاءُ وَاجِبٌ فَاعْتُبِرَ الْإِسْقَاطُ مَقْصُودًا فِيهِ)، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الدَّيْنِ: فَالْفَرْقُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِدَفْعِ مَضْمُونٍ عَلَى الْآخِذِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ وَإِنْ كَانَ الْآخِذُ دَائِنَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ عَيْنَ الدَّيْنِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بَلْ دَفْعُ مَالٍ مَضْمُونٍ عَلَى الْقَابِضِ ثُمَّ يَصِيرُ الضَّمَانُ بِالضَّمَانِ قِصَاصًا، وَقَدْ وَقَعَ وَلَمْ يَفُتْ لِإِمْكَانِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْقَضَاءِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْجَوَابُ عَنْ قولهِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ إيقَاعُهُ زَكَاةً فَكَأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ دَفَعَهُ إلَى الْمَصْرِفِ وَقَدْ وُجِدَ، وَكَوْنُهُ عَزْلًا حُكْمِيًّا لَهُمَا أَنْ يَمْنَعَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ صَحَّ بِدَفْعِهِ مُقَيَّدًا بِوُقُوعِهِ زَكَاةً وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ كَانَ نَاوِيًا لَهَا، فَلَوْ بَادَرَ إلَى الْأَدَاءِ وَقَعَ الْمَأْمُورُ بِهِ، فَلَمَّا أَخَّرَ حَتَّى أَدَّى الْآمِرُ كَانَ بِتَأْخِيرِهِ مُتَسَبِّبًا لِوُقُوعِهَا غَيْرَ زَكَاةٍ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا أَذِنَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَيَطَأَهَا فَفَعَلَ فَهِيَ لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ) لِأَنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِنَصِيبِهِ كَمَا فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ (وَهَذَا) لِأَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لَهُ خَاصَّةً وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ.
وَلَهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ دَخَلَتْ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى الْبَتَاتِ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ إذْ هُمَا لَا يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَهُ فَأَشْبَهَ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ، وَلَا وَجْهَ إلَى إثْبَاتِهِ بِالْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ فَأَثْبَتْنَاهُ بِالْهِبَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْإِذْنِ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى عَنْهَا لِلضَّرُورَةِ فَيَقَعُ الْمِلْكُ لَهُ خَاصَّةً بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَكَانَ مُؤَدِّيًا دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ.
وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِمَا لِمَا بَيَّنَّا (وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، وَالْمُفَاوَضَةُ تَضَمَّنَتْ الْكَفَالَةَ فَصَارَ كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا أَذِنَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لِلْآخَرِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً وَيَطَأَهَا فَفَعَلَ) وَأَدَّى جَمِيعَ ثَمَنِهَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ (فَهِيَ لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِ) شَرِيكُهُ (بِنِصْفِ) مَا أَدَّى (لِأَنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لَهُ خَاصَّةً كَطَعَامِ أَهْلِهِ (وَلَهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ دَخَلَتْ فِي الشِّرَاءِ عَلَى الشَّرِكَةِ) جَرْيًا عَلَى مُوجَبِ الْمُفَاوَضَةِ (إذْ لَا يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَهُ فَكَانَ كَحَالِ عَدَمِ الْإِذْنِ) ثُمَّ (الْإِذْنُ) لَهُ بِالْوَطْءِ (يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ مِنْهُ) إذْ (لَا يَحِلُّ إلَّا فِي مِلْكٍ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيْعِ) الصَّادِرِ مِنْ الْبَائِعِ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ (لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ عَدَمِ مِلْكِهِمَا تَغْيِيرَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَا مِنْ الشَّرِيكِ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الثَّمَنِ فَكَانَ هِبَةً وَإِنْ كَانَ شَائِعًا.
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ حُكْمًا لِلْإِحْلَالِ لَكَانَ قول الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ أَحْلَلْت لَك وَطْءَ هَذِهِ الْأَمَةِ تَمْلِيكًا لَهَا مِنْهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ.
وَأُجِيبُ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ أَقْبَلُ لِتَمَلُّكِ الشَّرِيكِ لَهَا مِنْ الْجَارِيَةِ الَّتِي لَا يَمْلِكُ الْمُخَاطَبُ بِالْإِحْلَالِ شِقْصًا مِنْهَا، وَلِذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يَمْلِكُهَا بِالِاسْتِيلَادِ دُونَ الْأَجْنَبِيِّ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ فَالرِّوَايَةُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ فِي تَمَلُّكِ الْجَارِيَةِ بِالْإِحْلَالِ.

.كِتَابُ الْوَقْفِ:

الشرح:
مُنَاسَبَتُهُ بِالشَّرِكَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُرَادُ لِاسْتِبْقَاءِ الْأَصْلِ مَعَ الِانْتِفَاعِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرِكَةِ مُسْتَبْقًى فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ، وَفِي الْوَقْفِ مَخْرَجٌ عَنْهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَمَحَاسِنُ الْوَقْفِ ظَاهِرَةٌ وَهِيَ الِانْتِفَاعُ الدَّارُّ الْبَاقِي عَلَى طَبَقَاتِ الْمَحْبُوبِينَ مِنْ الذُّرِّيَّةِ وَالْمُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَالْمَوْتَى لِمَا فِيهِ مِنْ إدَامَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ» الْحَدِيثَ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرِهِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَبَيَانِ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ وَرُكْنِهِ وَحُكْمِهِ، أَمَّا تَفْسِيرُهُ لُغَةً فَالْحَبْسُ مَصْدَرُ وَقَفْت أَقِفُ حَبَسْت، قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَوَقَفْت فِيهَا نَاقَتِي فَكَأَنَّهَا ** فَدَنٌ لِأَقْضِيَ حَاجَةَ الْمُتَلَوِّمِ

وَهُوَ أَحَدُ مَا جَاءَ عَلَى فَعَلْتُهُ فَفَعَلَ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، وَيَجْتَمِعَانِ فِي قولك وَقَفْت زَيْدًا أَوْ الْحِمَارَ فَوَقَفَ، وَأَمَّا أَوْقَفْته بِالْهَمْزِ فَلُغَةٌ رَدِيئَةٌ.
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي: أَخْبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْمَازِنِيِّ قَالَ: يُقَالُ وَقَفْت دَارِي وَأَرْضِي وَلَا يُعْرَفُ أَوْقَفْت مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، ثُمَّ اُشْتُهِرَ الْمَصْدَرُ: أَعْنِي الْوَقْفَ فِي الْمَوْقُوفِ.
فَقِيلَ هَذِهِ الدَّارُ وَقْفٌ، فَلِذَا جُمِعَ عَلَى أَفْعَالٍ فَقِيلَ وَقْفٌ وَأَوْقَافٌ كَوَقْتِ وَأَوْقَاتٍ.
وَأَمَّا شَرْعًا: فَحَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِمَنْفَعَتِهَا أَوْ صَرْفُ مَنْفَعَتِهَا عَلَى مَنْ أَحَبَّ وَعِنْدَهُمَا حَبْسُهَا لَا عَلَى مِلْكِ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إلَخْ.
وَقَدْ انْتَظَمَ هَذَا بَيَانَ حُكْمِهِ وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فَلَا حَاجَةَ لِإِفْرَادِهِ هُنَا أَيْضًا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: أَوْ صَرْفُ مَنْفَعَتِهَا؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ لِمَنْ يُحِبُّ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ بِلَا قَصْدِ الْقُرْبَةِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فِي آخِرِهِ مِنْ الْقُرْبَةِ بِشَرْطِ التَّأْبِيدِ، وَهُوَ بِذَلِكَ كَالْفُقَرَاءِ وَمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ لَكِنَّهُ يَكُونُ وَقْفًا قَبْلَ انْقِرَاضِ الْأَغْنِيَاءِ بِلَا تَصَدُّقٍ.
وَسَبَبُهُ إرَادَةُ مَحْبُوبِ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا بَيْنَ الْأَحْيَاءِ.
وَفِي الْآخِرَةِ بِالتَّقَرُّبِ إلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ جَلَّ وَعَزَّ.
وَأَمَّا شَرْطُهُ فَهُوَ الشَّرْطُ فِي سَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ مِنْ كَوْنِهِ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا، وَأَنْ يَكُونَ مُنَجَّزًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ، فَلَوْ قَالَ: إنْ قَدِمَ وَلَدِي فَدَارِي صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَجَاءَ وَلَدُهُ لَا يَصِيرُ وَقْفًا، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، فَلَوْ وَقَفَ الذِّمِّيُّ عَلَى وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ، وَجَعَلَ آخِرَهُ لِلْمَسَاكِينِ جَازَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ لِمَسَاكِينِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ خَصَّ فِي وَقْفِهِ مَسَاكِينَ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَ، وَيُفَرَّقُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس مِنْهُمْ إلَّا إنْ خَصَّ صِنْفًا مِنْهُمْ، فَلَوْ دَفَعَ الْقَيِّمُ إلَى غَيْرِهِمْ كَانَ ضَامِنًا، وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ.
وَلَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ ثُمَّ لِلْفُقَرَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الصَّدَقَةِ لَزِمَ شَرْطُهُ، وَكَذَا إنْ قَالَ مَنْ انْتَقَلَ إلَى غَيْرِ النَّصْرَانِيَّةِ خَرَجَ اُعْتُبِرَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْخَصَّافُ.
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ تَعَقَّبَهُ غَيْرَ مُتَأَخِّرٍ يُسَمَّى الطَّرَسُوسِيُّ شَنَّعَ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْكُفْرَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْإِسْلَامَ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ، وَهَذَا لِلْبُعْدِ مِنْ الْفِقْهِ فَإِنَّ شَرَائِطَ الْوَاقِفِ مُعْتَبَرَةٌ إذَا لَمْ تُخَالِفْ الشَّرْعَ، وَالْوَاقِفُ مَالِكٌ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً، وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ صِنْفًا مِنْ الْفُقَرَاءِ دُونَ صِنْفٍ، وَإِنْ كَانَ الْوَضْعُ فِي كُلِّهِمْ قُرْبَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ قُرْبَةٌ حَتَّى جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إلَيْهِمْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ عِنْدَنَا فَكَيْفَ لَا يُعْتَبَرُ شَرْطُهُ فِي صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ؟ أَرَأَيْت لَوْ وَقَفَ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُمْ أَلَيْسَ يُحْرَمُ مِنْهُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ دَفَعَ الْمُتَوَلِّي إلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ ضَامِنًا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ بَلْ الْحِرْمَانُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ سَبَبِ تَمَلُّكِهِ هَذَا الْمَالَ، وَالسَّبَبُ هُوَ إعْطَاءُ الْوَاقِفِ الْمَالِكِ، وَشَرْطُ صِحَّةِ وَقْفِهِ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى بَيْعَةٍ مَثَلًا فَإِذَا خَرِبَتْ يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ ابْتِدَاءً، وَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ مِيرَاثًا عَنْهُ نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ فِي وَقْفِهِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً عِنْدَ هُمْ؛ فَقَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ: الْوَقْفُ كَالْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَنْكَرَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ ذِمِّيَّانِ عَدْلَانِ فِي مِلَّتِهِمْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْوَقْفِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى أَنْ يَحُجَّ بِهِ أَوْ يَعْتَمِرَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قُرْبَةً عِنْدَهُمْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ إذَا وَقَفَ حَالَ رِدَّتِهِ فَفِي قول أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ مَوْقُوفٌ إنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ بَطَلَ وَقْفُهُ.
وَقول مُحَمَّدٍ إذَا انْتَحَلَ دِينًا جَازَ مِنْهُ مَا نُجِيزُهُ لِأَهْلِ ذَلِكَ الدِّينِ.
أَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَأَبُو حَنِيفَةَ يُجِيزُ وَقْفَهَا لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ إذَا وَقَفَ وَقْفًا صَحِيحًا فِي أَيِّ وَجْهٍ كَانَ ثُمَّ ارْتَدَّ يَبْطُلُ الْوَقْفُ وَيَصِيرُ مِيرَاثًا سَوَاءٌ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ أَوْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ إلَّا إنْ أَعَادَ الْوَقْفَ بَعْدَ عَوْدِهِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَحَكَى الْخَصَّافُ فِي وَقْفِ الْمُرْتَدِّينَ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِنَا مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي الذِّمِّيِّ يَتَزَنْدَقُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا، قَالَ بَعْضُهُمْ: أُقِرُّهُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ وَأُقِرُّ الْجِزْيَةَ عَلَيْهِ لِأَنِّي إنْ أَخَذْته بِالرُّجُوعِ فَإِنَّمَا أَرُدُّهُ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ وَلَا أَرَى ذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أُقِرُّهُ عَلَى الزَّنْدَقَةِ.
وَأَمَّا الصَّابِئَةُ فَإِنْ كَانُوا دَهْرِيَّةً يَقولونَ مَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ فَهُمْ صِنْفٌ مِنْ الزَّنَادِقَةِ، وَإِنْ كَانُوا يَقولونَ بِقول أَهْلِ الْكِتَابِ صَحَّ مِنْ وُقُوفِهِمْ مَا يَصِحُّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بَعْدَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، حُكْمُ وَقْفِهِمْ وَوَصَايَاهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَبُولِ شَهَادَاتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهَذَا حُكْمٌ بِإِسْلَامِهِمْ.
وَأَمَّا الْخَطَابِيَّةُ فَإِنَّمَا لَمْ يُقْبَلُوا؛ لِأَنَّهُ قِيلَ إنَّهُمْ يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِالزُّورِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ.
وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ صَدَقَ الْمُدَّعِي إذَا حَلَفَ أَنَّهُ مُحِقٌّ.
وَمِنْ الشُّرُوطِ الْمِلْكُ وَقْتَ الْوَقْفِ، حَتَّى لَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَوَقَفَهَا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْ مَالِكِهَا وَدَفَعَ ثَمَنَهَا إلَيْهِ أَوْ صَالَحَ عَلَى مَالٍ دَفَعَهُ إلَيْهِ لَا تَكُونُ وَقْفًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهَا بَعْدَ أَنْ وَقَفَهَا، هَذَا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْوَاقِفُ.
أَمَّا لَوْ وَقَفَ ضَيْعَةَ غَيْرِهِ عَلَى جِهَاتٍ فَبَلَغَ فَأَجَازَهُ جَازَ بِشَرْطِ الْحُكْمِ وَالتَّسْلِيمِ أَوْ عَدَمِهِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِجَوَازِ وَقْفِ الْفُضُولِيِّ، وَسَتَأْتِيك فُرُوعٌ أُخَرُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ.
وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ فَوَقَفَ أَرْضًا لَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حَجْرَهُ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَخْرُجَ مَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ لِيَضُرَّ بِأَرْبَابِ الدُّيُونِ أَوْ بِنَفْسِهِ كَذَا أَطْلَقَهَا الْخَصَّافُ.
وَيَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا وَقَفَهَا فِي الْحَجْرِ لِلسَّفَهِ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَنْ يَصِحَّ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَعِنْدَ الْكُلِّ إذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ، هَذَا وَأَمَّا عَدَمُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ كَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، فَلَوْ أَجَّرَ أَرْضًا عَامَيْنِ فَوَقَفَهَا قَبْلَ مُضِيِّهَا لَزِمَ الْوَقْفُ بِشَرْطِهِ فَلَا يَبْطُلُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ رَجَعَتْ الْأَرْضُ إلَى مَا جَعَلَهَا لَهُ مِنْ الْجِهَاتِ، وَكَذَا لَوْ رَهَنَ أَرْضَهُ ثُمَّ وَقَفَهَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَكَّهَا لَزِمَ الْوَقْفُ وَلَا تَخْرُجُ عَنْ الرَّهْنِ بِذَلِكَ، وَلَوْ أَقَامَتْ سِنِينَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَافْتَكَّهَا تَعُودُ إلَى الْجِهَةِ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الِافْتِكَاكِ وَتَرَكَ قَدْرَ مَا يَفْتَكُّ بِهِ افْتَكَّ وَلَزِمَ الْوَقْفُ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً بِيعَتْ وَبَطَلَ الْوَقْفُ، وَفِي الْإِجَارَةِ إذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَآجِرَيْنِ تَبْطُلُ وَتَصِيرُ وَقْفًا.
وَأَمَّا شَرْطُهُ الْخَاصُّ لِخُرُوجِهِ عَنْ الْمِلْكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِهِ، أَوْ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمٌ بِهِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَشْتَرِطُ سِوَى كَوْنِ الْمَحَلِّ قَابِلًا لَهُ مِنْ كَوْنِهِ عَقَارًا أَوْ دَارًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُؤَبَّدًا مَقْسُومًا غَيْرَ مُشَاعٍ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمُسَلَّمًا إلَى مُتَوَلٍّ.
وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالْأَلْفَاظُ الْخَاصَّةُ كَأَنْ يَقول أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ مُؤَبَّدَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ بَعْدَ شُرُوطِهِ.
وَلَا بَأْسَ أَنْ نَسُوقَ شَيْئًا مِنْ الْأَلْفَاظِ: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ، أَوْ قَالَ تَصَدَّقْت بِأَرْضِي هَذِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ لَا تَكُونُ وَقْفًا بَلْ نَذْرًا يُوجِبُ التَّصَدُّقَ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا، فَإِنْ فَعَلَ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ وَإِلَّا وُرِثَتْ عَنْهُ، كَمَنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ أَوْ كَفَّارَةٌ فَمَاتَ بِلَا إيصَاءٍ تُورَثُ عَنْهُ، وَمَوْقُوفَةٌ فَقَطْ لَا تَصِحُّ إلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ وَقْفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَهُوَ قول عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَإِذَا كَانَ مُفِيدًا لِخُصُوصِ الْمَصْرِفِ: أَعْنِي الْفُقَرَاءَ لَزِمَ كَوْنُهُ مُؤَبَّدًا؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْفُقَرَاءِ لَا تَنْقَطِعُ.
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَمَشَايِخُ بَلْخَ يُفْتُونَ بِقول أَبِي يُوسُفَ، وَنَحْنُ نُفْتِي بِقولهِ أَيْضًا لِمَكَانِ الْعُرْفِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ رَدُّ هِلَالٍ قول أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَبَطَلَ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ إذَا كَانَ يَصْرِفُهُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ كَالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ قَالَ مَوْقُوفَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ صَحَّ عِنْدَ هِلَالٍ أَيْضًا لِزَوَالِ الِاحْتِمَالِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، بِخِلَافِ قولهِ مَحْبُوسَةٌ أَوْ حَبْسٌ، وَلَوْ كَانَ فِي حَبْسِ مِثْلِ هَذَا الْعُرْفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَقولهِ مَوْقُوفَةً، وَكَذَا إذَا قَالَ لِلسَّبِيلِ إذَا تَعَارَفُوهُ وَقْفًا مُؤَبَّدًا عَلَى الْفُقَرَاءِ كَانَ كَذَلِكَ وَإِلَّا سُئِلَ.
فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الْوَقْفَ صَارَ وَقْفًا؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَفْظَهُ، أَوْ قَالَ أَرَدْت مَعْنَى صَدَقَةٍ فَهُوَ نَذْرٌ فَيَتَصَدَّقُ بِهَا أَوْ بِثَمَنِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَانَتْ مِيرَاثًا ذَكَرَهُ فِي النَّوَازِلِ.
وَقَالَ فِي قولهِ جَعَلْتهَا لِلْفُقَرَاءِ إنْ تَعَارَفُوهُ وَقْفًا عُمِلَ بِهِ وَإِلَّا سُئِلَ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَقْفَ فَهِيَ وَقْفٌ أَوْ الصَّدَقَةَ فَهُوَ نَذْرٌ، وَكَذَا عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى، فَإِثْبَاتُهُ بِهِ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ أَوْلَى.
وَاعْتَرَضَهُ فِي فَتَاوَى الْخَاصِّيِّ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَذَكَرَ فِي إحْدَاهُمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَكُونُ مِيرَاثًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَهُ مِيرَاثًا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ نَذْرًا؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ إذَا مَاتَ النَّاذِرُ وَلَمْ يُوَفِّ بِنَذْرِهِ يَكُونُ مِيرَاثًا إلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى تَمَامِ التَّفْصِيلِ فِي إحْدَاهُمَا، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَكُونُ نَذْرًا، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ وَلَا بِقِيمَتِهِ يَكُونُ مِيرَاثًا؛ وَلَوْ قَالَ صَدَقَةً مُوَقْوِقَةً فَهِلَالٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُمَا عَلَى صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ صَدَقَةً عُرِفَ مَصْرِفُهُ، وَانْتَفَى بِقولهِ مَوْقُوفَةً احْتِمَالُ كَوْنِهِ نَذْرًا، وَكَذَلِكَ حَبْسُ صَدَقَةٍ.
وَكَذَلِكَ صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ.
قِيلَ وَمُحَرَّمَةٌ بِمَنْزِلَةِ وَقْفٍ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ حَبْسٌ أَوْ مَحْبُوسَةٌ مَوْقُوفَةٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مَوْقُوفَةٍ فَكَانَ كَإِفْرَادِ لَفْظِ مَوْقُوفَةٍ.
وَفِي النَّوَازِلِ: لَوْ قَالَ جَعَلْت نُزُلَ كَرْمِي وَقْفًا وَفِيهِ ثَمَرٌ أَوْ لَا يَصِيرُ الْكَرْمُ وَقْفًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ جَعَلْت غَلَّتَهُ وَقْفًا تَصْحِيحًا لِلْكَلَامِ مَا أَمْكَنَ كَأَنَّهُ قَالَ جَعَلْت كَرْمِي بِمَا فِيهِ وَقْفًا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَدْخُلَ الثِّمَارُ لِمَا سَنَذْكُرُهُ؛ وَلَوْ زَادَ فَقَالَ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ مُؤَبَّدًا، وَهُوَ مَوْضِعُ اتِّفَاقِ مُجِيزِي الْوَقْفِ عَلَى أَنَّهَا الْعِبَارَةُ الْوَافِيَةُ، إلَّا أَنَّ قولهُ فِي الْأَسْرَارِ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ مُؤَبَّدًا كَانَ وَقْفًا عَلَى قول عَامَّةِ مَنْ يُجِيزُ الْوَقْفَ يُفِيدُ أَنَّ فِيهِ خِلَافًا، وَلَا يَنْبَغِي فَإِنَّ التَّأْبِيدَ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَوْ آخِرِهِ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ وَجَعْلُهُ لِلْفُقَرَاءِ يُفِيدُ ذَلِكَ.
وَقولهُ مَوْقُوفَةً لِلَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةٍ مَوْقُوفَةٍ.

متن الهداية:
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْ الْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ فَيَقول إذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْت دَارِي عَلَى كَذَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ (يَزُولُ مِلْكُهُ بِمُجَرَّدِ الْقول. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَزُولُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْوَقْفِ وَلِيًّا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْوَقْفُ لُغَةً.
هُوَ الْحَبْسُ تَقول وَقَفْت الدَّابَّةَ وَأَوْقَفْتهَا بِمَعْنًى.
وَهُوَ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ.
ثُمَّ قِيلَ الْمَنْفَعَةُ مَعْدُومَةٌ فَالتَّصَدُّقُ بِالْمَعْدُومِ لَا يَصِحُّ، فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ أَصْلًا عِنْدَهُ، وَهُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْعِبَادِ فَيَلْزَمُ وَلَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ.
وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا وَالتَّرْجِيحُ بِالدَّلِيلِ.
لَهُمَا قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَرْضٍ لَهُ تُدْعَى ثَمْغَ: «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ» وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفُ مِنْهُ لِيَصِلَ ثَوَابُهُ إلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَقَدْ أَمْكَنَ دَفْعُ حَاجَتِهِ بِإِسْقَاطِ الْمِلْكِ وَجَعْلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى.
إذْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ فَيُجْعَلُ كَذَلِكَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى» وَعَنْ شُرَيْحٍ: جَاءَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ لِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ فِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ زِرَاعَةً وَسُكْنَى وَغَيْرَ ذَلِكَ وَالْمِلْكُ فِيهِ لِلْوَاقِفِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِصَرْفِ غَلَّاتِهِ إلَى مَصَارِفِهَا وَنَصْبِ الْقَوَّامِرِ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَنَافِعِهِ فَصَارَ شَبِيهَ الْعَارِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّصَدُّقِ بِالْغَلَّةِ دَائِمًا وَلَا تَصَدُّقَ عَنْهُ إلَّا بِالْبَقَاءِ عَلَى مِلْكِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَالَ مِلْكُهُ، لَا إلَى مَالِكٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مَعَ بَقَائِهِ كَالسَّائِبَةِ.
بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ، وَبِخِلَافِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ جُعِلَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهُنَا لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْعَبْدِ عَنْهُ فَلَمْ يَصِرْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ فِي الْكِتَابِ: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ، وَهَذَا فِي حُكْمِ الْحَاكِمِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ، أَمَّا فِي تَعْلِيقِهِ بِالْمَوْتِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا أَنَّهُ تَصَدُّقٌ بِمَنَافِعِهِ مُؤَبَّدًا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ مُؤَبَّدًا فَيَلْزَمُ، وَالْمُرَادُ بِالْحَاكِمِ الْمَوْلَى، فَأَمَّا الْمُحَكِّمُ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْ الْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ حَاكِمٌ) أَيْ بِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، (أَوْ يُعَلِّقَهُ) أَيْ يُعَلِّقَ الْوَقْفَ (بِمَوْتِهِ فَيَقول: إذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْت دَارِي عَلَى كَذَا) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ (يَزُولُ بِمُجَرَّدِ الْقول) الَّذِي قَدَّمْنَا صِحَّةَ الْوَقْفِ بِهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ (لَا يَزُولُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْوَقْفِ مُتَوَلِّيًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ) بَعْدَ ذَلِكَ الْقول، وَبِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ بُخَارَى، وَإِذَا لَمْ يَزُلْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَبْلَ الْحُكْمِ يَكُونُ مُوجَبُ الْقول الْمَذْكُورِ حَبْسَ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقَ بِالْمَنْفَعَةِ، وَحَقِيقَتُهُ لَيْسَ إلَّا التَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَلَفْظُ حَبَسَ إلَى آخِرِهِ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ لَهُ بَيْعَهُ مَتَى شَاءَ وَمِلْكُهُ مُسْتَمِرٌّ فِيهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِمَنْفَعَتِهِ فَلَمْ يُحْدِثْ الْوَاقِفُ إلَّا مَشِيئَةَ التَّصَدُّقِ بِمَنْفَعَتِهِ، وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ مَتَى شَاءَ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَانَ ثَابِتًا لَهُ قَبْلَ الْوَقْفِ بِلَا ذِكْرِ لَفْظِ الْوَقْفِ فَلَمْ يُفِدْ لَفْظُ الْوَقْفِ شَيْئًا، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ قولهِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُ الْوَقْفَ، وَهُوَ مَا أَرَادَ الْمُصَنِّفُ.
بِقولهِ (وَهُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ، وَحِينَئِذٍ فَقول مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ قَبْلَ الْحُكْمِ حُكْمٌ لَمْ يَكُنْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ كَانَ كَالْمَعْدُومِ، وَالْجَوَازُ وَالنَّفَاذُ وَالصِّحَّةُ فَرْعُ اعْتِبَارِ الْوُجُودِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قولهُ لَا يَجُوزُ وَلَا يُجِيزُ لَيْسَ الْمُرَادُ التَّلَفُّظَ بِلَفْظِ الْوَقْفِ بَلْ لَا يُجِيزُ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهَا أَحْكَامُ ذِكْرِ الْوَقْفِ فَلَا خِلَافَ إذَنْ؛ فَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُ الْوَقْفَ: أَيْ لَا تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ الَّتِي ذُكِرَتْ لَهُ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهَا حَاكِمٌ.
وَقولهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةَ الْعَارِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَى غَيْرِهِ فَظَاهِرٌ وَإِنْ أَخْرَجَهُ إلَى غَيْرِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرُ لَيْسَ هُوَ، الْمُسْتَوْفِي لِمَنَافِعِهِ.
فَرْعٌ:
يَثْبُتُ الْوَقْفُ بِالضَّرُورَةِ.
وَصُورَتُهُ أَنْ يُوصِيَ بِغَلَّةِ هَذِهِ الدَّارِ لِلْمَسَاكِينِ أَبَدًا أَوْ لِفُلَانٍ وَبَعْدَهُ لِلْمَسَاكِينِ أَبَدًا، فَإِنَّ هَذِهِ الدَّارَ تَصِيرُ وَقْفًا بِالضَّرُورَةِ.
وَالْوَجْهُ أَنَّهَا كَقولهِ إذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْت دَارِي عَلَى كَذَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَعِنْدَهُمَا حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْعِبَادِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى سِوَى قولنَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَلَى وَجْهٍ يُحْبَسُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ اللَّهِ فِي الْأَشْيَاءِ لَمْ يَزُلْ قَطُّ وَلَا يُزَالُ، فَالْعِبَارَةُ الْجَيِّدَةُ قول قَاضِي خَانْ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا صَحَّ الْوَقْفُ يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ لَا إلَى مَالِكٍ فَيَلْزَمُ وَلَا يَمْلِكُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِلشَّافِعِيِّ قول وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ يَنْتَقِلُ إلَى مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ لِامْتِنَاعِ السَّائِبَةِ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ: هُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ مِلْكُهُ لَكِنْ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا قول آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «حَبِّسْ الْأَصْلَ وَسَبِّلْ الثَّمَرَةَ».اهـ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ فَإِنَّ خِلَافَ الْأَصْلِ وَالْقِيَاسِ ثَابِتٌ فِي كُلٍّ مِنْ الْقوليْنِ وَهُوَ خُرُوجُهُ لَا إلَى مَالِكٍ وَثُبُوتُ مِلْكِهِ أَوْ مِلْكِ غَيْرِهِ فِيهِ مَعَ مَنْعِهِ مِنْ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ؛ فَمِنْ الْأَوَّلِ الْمَسْجِدُ وَغَيْرُهُ، وَمِنْ الثَّانِي أُمُّ الْوَلَدِ يَكُونُ الْمِلْكُ فِيهَا بَاقِيًا وَلَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُوَرَّثُ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ الْمُطْلَقُ عِنْدَنَا فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ بِالدَّلِيلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِلْكَ الْوَاقِفِ كَانَ مُتَيَقَّنَ الثُّبُوتِ، وَالْمَعْلُومُ بِالْوَقْفِ مِنْ شَرْطِهِ عَدَمُ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، فَلْيَثْبُتْ ذَلِكَ الْقَدْرُ فَقَطْ وَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمُزِيلُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ، فَإِنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ» مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِلَّا لَخَرَجَ إلَى مَالِكٍ آخَرَ.
ثُمَّ رَأَيْنَا غَيْرَهُ بَيَّنَهُ بِقوله: «إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا» أَيْ بِالثَّمَرَةِ أَوْ الْغَلَّةِ، وَظَاهِرُهُ حَبْسُهَا عَلَى مَا كَانَ فَلَمْ يَخْلُصْ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ الْمِلْكِ، وَكَذَا الْمَعْنَى الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ قولهُ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفُ يُفِيدُ لُزُومَهُ لَا غَيْرُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ثَبَتَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ «تَصَدَّقْ» وَقوله: «حَبِّسْ» وَالْمَفْهُومَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا مَلِّكْهُ الْفَقِيرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَمَعْنَى حَبِّسْ احْبِسْهُ: أَيْ عَلَى مَا كَانَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا إلَّا مَعْنَى أَحَدِهِمَا، وَإِلَّا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجِيبًا لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ.
فَإِمَّا أَنْ يَحْمِلَ حَبِّسْ عَلَى مَعْنَى تَصَدَّقْ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى نَفْيِهِ إذْ لَا يَقول وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ بِمِلْكِ الْفَقِيرِ لِلْعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ تَصَدَّقْ عَلَى مَعْنَى حَبَسَ وَهُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَيُحْبَسُ عَلَى الْمِلْكِ شَرْعًا، وَإِذَا حَبَسَ عَلَيْهِ شَرْعًا امْتَنَعَ بَيْعُهُ.
وَصُورَةُ حُكْمِ الْحَاكِمِ الَّذِي بِهِ يَزُولُ الْمِلْكُ عِنْدَهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى مُتَوَلٍّ، ثُمَّ يُظْهِرَ الرُّجُوعَ فَيُخَاصِمَهُ إلَى الْقَاضِي فَيَقْضِي الْقَاضِي بِلُزُومِهِ، قَالُوا: فَإِنْ خَافَ الْوَاقِفُ أَنْ يَبِيعَهُ قَاضٍ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ يَكْتُبُ فِي صَكِّ الْوَقْفِ: فَإِنْ أَبْطَلَهُ أَوْ غَيَّرَهُ قَاضٍ فَهَذِهِ الْأَرْضُ بِأَصْلِهَا وَجَمِيعُ مَا فِيهَا وَصِيَّةٌ مِنْ فُلَانٍ الْوَاقِفِ تُبَاعُ وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَتَبَ هَذَا لَا يُخَاصِمُ أَحَدٌ فِي إبْطَالِهِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْوَصِيَّةُ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَإِذَا أَبْطَلَهُ قَاضٍ يَصِيرُ وَصِيَّةً يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا إذَا وَقَفَ فِي صِحَّتِهِ، أَمَّا إذَا كَانَ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ يَكُونُ فِي نَقْضِهِ وَبَيْعِهِ فَائِدَةٌ لِلْوَرَثَةِ، فَمَحْمَلُ مَا ذَكَرَ إذَا لَمْ يَكُنْ وَقَفَ فِي الْمَرَضِ، أَوْ كَانَ فِيهِ لَكِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ.
قولهُ: (وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا) أَيْ لَفْظُ الْوَقْفِ يَصْدُقُ مَعَ كُلٍّ مِنْ زَوَالِ الْمِلْكِ وَعَدَمِهِ، إذْ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ لَفْظِ وَقَفْت دَارِي أَوْ حَبَسْتهَا خُرُوجُهَا عَنْ الْمِلْكِ فَيَصْدُقُ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَالتَّرْجِيحُ: أَيْ تَرْجِيحُ الْخُرُوجِ وَعَدَمِهِ بِالدَّلِيلِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ قِبَلِهِمَا إنَّمَا تُفِيدُ اللُّزُومَ لَا الْخُرُوجَ عَنْ الْمِلْكِ، وَمِنْ قِبَلِهِ تُفِيدُ نَفْيَ كُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا دَلِيلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يُفِيدُ تَمَامَ الْمَطْلُوبِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ بِدَلِيلِهِمَا فَذَكَرَ حَدِيثَ ثَمْغَ وَهُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا مِيمٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ غَيْنٌ مُعْجَمَةٌ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ حَافِظُ الدِّينِ أَنَّهُ بِلَا تَنْوِينٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ.
وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَنَّهَا فِي كُتُبِ غَرَائِبِ الْحَدِيثِ الْمُصَحَّحَةِ عِنْدَ الثِّقَاتِ مُنَوَّنًا وَغَيْرَ مُنَوَّنٍ كَمَا فِي دَعْدٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْأَصْلِ: أَخْبَرَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ تُدْعَى ثَمْغَ، وَقَالَ: كَانَ نَخْلًا نَفِيسًا، قَالَ: فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اسْتَفَدْت مَالًا هُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِهِ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَلَكِنْ تُنْفَقُ ثَمَرَتُهُ، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الرِّقَابِ وَلِلضَّعِيفِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِي الْقُرْبَى لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُؤَكِّلَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ»، وَحَدِيثُ عُمَرَ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَبَاقِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَال: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَصَبْت أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا، فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ» الْحَدِيثَ.
وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَلَكِنْ تُنْفَقُ ثَمَرَتُهُ» ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ قولهُ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفَ لِحَاجَتِهِ إلَى أَنْ يَصِلَ ثَوَابُهُ إلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّرْعُ إلَى إعْمَالِ مَا يَدْفَعُ هَذِهِ الْحَاجَةَ فِيمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» وَلَا طَرِيقَ إلَى تَحَقُّقِ دَفْعِ هَذِهِ الْحَاجَةِ وَإِثْبَاتِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ إلَّا لُزُومُهُ، وَتَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ تَحَقَّقَتْ حَاجَةُ اسْتِمْرَارِ وُصُولِ ثَوَابِهِ، وَيُمْكِنُ بِإِسْقَاطِ مِلْكِهِ فَيَسْقُطُ ظَاهِرُ الْمَنْعِ إذْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِذَلِكَ سُقُوطُ الْمِلْكِ طَرِيقًا بَلْ يَتَحَقَّقُ بِالْحُكْمِ بِلُزُومِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ زَوَالُ الْمِلْكِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَلَا يَقْدَحُ فِيمَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ الْأَقْوَالِ فِيمَا مَضَى، ثُمَّ عَلَى تَقْرِيرِنَا يَحْصُلُ مَطْلُوبُهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا تَمَّتْ الدَّلَالَةُ عَلَى لُزُومِهِ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِمُوَافَقَتِنَا لَهُمَا عَلَى ذَلِكَ لِاعْتِقَادِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ التَّلَازُمَ بَيْنَ اللُّزُومِ وَالْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِهِ.
وَقولهُ كَالْمَسْجِدِ نَظِيرُ مَا خَرَجَ عَنْ الْمِلْكِ بِالْإِجْمَاعِ لَا إلَى مَالِكٍ، وَكَذَا الْإِعْتَاقُ، وَسَيُجِيبُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْعِتْقِ وَمُطْلَقِ الْوَقْفِ.
قولهُ: (وَلَهُ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ» أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مَعَانِي الْآثَارِ إلَى عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا أُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ وَأَنْزَلَ فِيهَا الْفَرَائِضَ نَهَى عَنْ الْحَبْسِ».
وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَخِيهِ وَضَعَّفُوهُمَا.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ سِلَاحٍ أَوْ كُرَاعٍ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْمَوْقُوفِ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ ثُبُوتَ الْوَقْفِ وَلِهَذَا اسْتَثْنَى الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ لَا يُقَالُ إلَّا سَمَاعًا وَإِلَّا فَلَا يَحِلُّ، وَالشَّعْبِيُّ أَدْرَكَ عَلِيًّا وَرِوَايَتُهُ عَنْهُ فِي الْبُخَارِيِّ ثَابِتَةٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ شُرَيْحٍ فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْبُيُوعِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَابْنُ زَائِدَةَ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ.
وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَشُرَيْحٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَقَدْ رَفَعَ الْحَدِيثَ فَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ.
قولهُ: (وَلِأَنَّ الْمِلْكَ إلَخْ) ظَاهِرُ مُصَادَرَةٍ لِجَعْلِهِ الدَّعْوَى جُزْءَ الدَّلِيلِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ لِيَصِلَ الدَّلِيلَ بِالدَّعْوَى، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْهُ حَتَّى جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ زِرَاعَةً وَسُكْنَى لِغَيْرِ الْوَاقِفِ، وَتَعَلُّقُ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالْعَيْنِ أَثَرُ ثُبُوتِ مِلْكِهِمْ فِيهَا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمِلْكُ لِغَيْرِ الْوَاقِفِ أَوْ لَهُ، وَاتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِلْكًا لِغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ، وَكَذَا الِاسْتِيضَاحُ بِنَصْبِ الْقَوَّامِ وَصَرْفِ غَلَّاتِهِ بِحَسَبِ الْأَصْلِ يَكُونُ عَنْ مِلْكِهِ لِلْعَيْنِ إلَّا أَنْ يُوجِبَ مُوجِبٌ لَا مَرَدَّ لَهُ خُرُوجَهُ عَنْ مِلْكِهِ، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِوِلَايَةِ غَيْرِ الْمِلْكِ، وَلَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْفَرْقِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ جُعِلَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ مُحَرَّرًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَ الْعِبَادُ فِيهِ شَيْئًا غَيْرَ الْعِبَادَةِ فِيهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ أَصْلُهُ الْكَعْبَةُ، وَالْوَقْفُ غَيْرُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَنْتَفِعُ الْعِبَادُ بِعَيْنِهِ زِرَاعَةً وَسُكْنَى وَغَيْرَهُمَا كَمَا يَنْتَفِعُ بِالْمَمْلُوكَاتِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ كَالْمَسْجِدِ فَيُلْحَقُ بِالْكَعْبَةِ كَمَا أُلْحِقَ الْمَسْجِدُ بِهَا.
وَأَيْضًا قَضِيَّةُ كَوْنِ الْحَاصِلِ مِنْهُ صَدَقَةً دَائِمَةً عَنْ الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ بَاقِيًا إذْ لَا تَصَدُّقَ بِلَا مِلْكٍ فَاقْتَضَى قِيَامَ الْمِلْكَ فَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَإِتْلَافٌ لِلْمَمْلُوكِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَيْسَ الْوَقْفُ كَذَلِكَ.
وَجَوَابُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْآدَمِيَّ خُلِقَ مَالِكًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ، وَإِنَّمَا عَرَضَ فِيهِ الْمَمْلُوكِيَّةُ وَبِالْإِعْتَاقِ يَعُودُ إلَى مَا كَانَ، بِخِلَافِ مَا سِوَاهُ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ لِتُتَمَلَّكَ فَبِالْوَقْفِ لَا تَعُودُ إلَى أَصْلٍ هُوَ عَدَمُ الْمَمْلُوكِيَّةِ بَلْ إلَى الْحَضِّ عَلَى مِلْكِهِ وَالتَّصَدُّقِ بِالْمَنْفَعَةِ وَهَذَا حَقٌّ، وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ الْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِهِ، لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُ عَدَمَ الْخُرُوجِ مَلْزُومًا لِعَدَمِ لُزُومِهِ صَدَقَةً أَوْ بِرًّا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا مُنْفَكَّانِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ.
وَالْحَقُّ تَرَجُّحُ قول عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ بِلُزُومِهِ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى ذَلِكَ قولا كَمَا صَحَّ مِنْ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ» إلَى آخِرِهِ، وَتَكَرَّرَ هَذَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَدَقَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ أُخْتِهَا وَأُمِّ سَلَمَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ وَصْفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي أَرْوَى الدَّوْسِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ كُلُّهَا بِرِوَايَاتٍ، وَتَوَارَثَ النَّاسُ أَجْمَعُونَ ذَلِكَ فَلَا تَعَارُضَ بِمِثْلِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ شُرَيْحٍ بَيَانُ نَسْخِ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْحَامِي وَنَحْوِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ الْعَمَلِيُّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُتَوَارَثًا عَلَى خِلَافِ قولهِ فَلِذَا تَرَجَّحَ خِلَافُهُ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قولهِمَا.
قولهُ: (وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ بِالْمَوْتِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَنَافِعِهِ مُؤَبَّدًا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ مُؤَبَّدًا فَيَلْزَمُ) وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ إبْطَالِ الْوَصِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ مَوْتِهِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا يَلْزَمُ عَلَى مُقَابِلِهِ مِنْ جَوَازِ تَعْلِيقِ الْوَقْفِ، وَالْوَقْفُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ.
وَلِذَا لَوْ قَالَ إذَا مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَقَدْ وَقَفْت أَرْضِي إلَى آخِرِهِ فَمَاتَ لَمْ تَصِرْ وَقْفًا وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ الْمَوْتِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إذَا مِتُّ فَاجْعَلُوهَا وَقْفًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ التَّوْكِيلِ لَا تَعْلِيقُ الْوَقْفِ نَفْسِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَقْفَ بِمَنْزِلَةِ تَمْلِيكِ الْهِبَةِ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَالتَّمْلِيكَاتُ غَيْرُ الْوَصِيَّةِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ.
وَنَصَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَكُونُ بَاطِلًا أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى مَا عَرَفْت بِأَنَّ صِحَّتَهُ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِهِ وَصِيَّةً.
قَالُوا: لَوْ قَالَ دَارِي هَذِهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَصَالِحِ مَسْجِدِ كَذَا بَعْدَ مَوْتِي صَحَّ، وَلَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهَا، أَمَّا لَوْ قَالَ إنْ قَدِمَ وَلَدِي فَعَلَيَّ أَنْ أَقِفَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى ابْنِ السَّبِيلِ فَقَدِمَ فَهُوَ نَذْرٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَإِنْ وَقَفَهُ عَلَى وَلَدِهِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِمْ جَازَ فِي الْحُكْمِ وَنَذْرُهُ بَاقٍ.
إنْ وَقَفَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ سَقَطَ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ، وَتَعْيِينُ الْمُعْطَى لَهُ النَّذْرَ لَغْوٌ فَصَارَ الثَّابِتُ النَّذْرَ بِالْوَقْفِ فَجَازَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَيْسَ كَنَفْسِهِ.
فَإِنْ قُلْت: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ النَّذْرُ بِالْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ.
قُلْت: بَلْ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَّخِذَ الْإِمَامُ لِلْمُسْلِمِينَ مَسْجِدًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِنْ مَالِهِمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيْتُ مَالٍ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ شِئْت ثُمَّ قَالَ شِئْت كَانَ بَاطِلًا لِلتَّعْلِيقِ، أَمَّا لَوْ قَالَ شِئْت وَجَعَلْتهَا صَدَقَةً صَحَّ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ فِي مِلْكِي فَهِيَ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، فَظَهَرَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى أَمْرٍ كَائِنٍ، وَالتَّعْلِيقُ عَلَى أَمْرٍ كَائِنٍ تَنْجِيزٌ، الْمُرَادُ بِالْحَاكِمِ: يَعْنِي فِي قولهِ أَوْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ الْقَاضِي.
وَأَمَّا الْمُحَكِّمُ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَ الْوَقْفَ بَعْدَ حُكْمِهِ.

متن الهداية:
وَلَوْ وَقَفَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَالْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَزُولُ عِنْدَهُمَا يَزُولُ بِالْقول عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودًا، وَقَدْ يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ.
قَالَ: (وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَإِذَا اُسْتُحِقَّ مَكَانَ قولهِ إذَا صَحَّ (خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَلْ يَنْفُذُ بَيْعُهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ لَمَا انْتَقَلَ عَنْهُ بِشَرْطِ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قولهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قولهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ وَقَفَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ كَالْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ) حَتَّى يَلْزَمُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فِي الْحُكْمِ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يُحْكَمَ بِهِ فَلَهُ بَيْعُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْحُكْمِ إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ.
وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُ إلَّا أَنَّهُ مِنْ الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِخِلَافِهِ فِي الصِّحَّةِ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: مَرِيضٌ وَقَفَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تُحِيطُ بِمَالِهِ يُبَاعُ وَيُنْقَضُ الْوَقْفُ، كَمَا لَوْ وَقَفَ دَارًا ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَيَنْقُضَ الْوَقْفَ انْتَهَى مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ الْمَدْيُونُ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تُحِيطُ بِمَالِهِ، فَإِنَّ وَقْفَهُ لَازِمٌ لَا يَنْقُضُهُ أَرْبَابُ الدُّيُونِ إذَا كَانَ قَبْلَ الْحَجْرِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِالْعَيْنِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ.
قولهُ: (وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَزُولُ عِنْدَهُمَا يَزُولُ بِالْقول عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ) قول الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَقول أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ كَالْعِتْقِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بُدَّ لِزَوَالِهِ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي؛ لِأَنَّ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَجْعَلَهُ لِلَّهِ فَيَصِيرَ حَقًّا لَهُ، وَحَقُّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ مُسَلَّمًا فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ لِلْعَبْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ لِلَّهِ تَعَالَى (وَالتَّمْلِيكُ مِنْهُ وَهُوَ مَالِكٌ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودًا وَقَدْ يَتَحَقَّقُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ) الْمُنَجَّزَةِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّمْلِيكَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَتَحَقَّقُ لَا مَقْصُودًا وَلَا تَبَعًا؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ الْمُسْتَمِرِّ، ثُمَّ لَا مُوجِبَ لِاعْتِبَارِهِ حَتَّى يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ تَوْجِيهِهِ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ إمَّا خُرُوجُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْوَقْفِ لَا إلَى أَحَدٍ، وَتَوَجُّهُ الْخِطَابِ بِصَرْفِ غَلَّتِهِ إلَى مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ أَوْ تَوَجُّهُ الْخِطَابِ بِذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ، فَإِذَا فَعَلَ خَرَجَ مِنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ كَمَا هُوَ فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ تَكَلُّفِ اعْتِبَارٍ آخَرَ.
نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُلَاحَظَ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ تَسْلِيمًا إلَيْهِ تَعَالَى كَأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ نَائِبَهُ فِي قَبْضِ حَقِّهِ، وَذَلِكَ بِقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ لَا الْمُتَوَلِّي كَالزَّكَاةِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يُلَاحَظَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ الْمَقْصُودُ لَيْسَ إلَّا فِعْلُ مَا وَجَبَ بِالْوَقْفِ، فَلِذَا كَانَ قول أَبِي يُوسُفَ أَوْجَهَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ.
وَفِي الْمُنْيَةِ: الْفَتْوَى عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ وَهَذَا قول مَشَايِخِ بَلْخَ.
وَأَمَّا الْبُخَارِيُّونَ: فَأَخَذُوا بِقول مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو عَاصِمٍ يَقول قول أَبِي يُوسُفَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَقْوَى، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَقول مُحَمَّدٍ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْآثَارِ: يَعْنِي مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ وَقْفَهُ فِي يَدِ حَفْصَةَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَرَدَّهُ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ فَعَلَهُ لِيُتِمَّ الْوَقْفَ بَلْ لِشَغْلِهِ وَخَوْفِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ، وَكَذَا جَمِيعُ مَنْ يَنْصِبُ الْمُتَوَلِّينَ لَا يَخْطِرُ لَهُ غَيْرُ تَفْرِيغِ نَفْسِهِ مِنْ أَمْرِهِ.
وَأَمَّا قول مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ تَمَّ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي صَارَتْ يَدُ الْوَاقِفِ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ وَالتَّبَرُّعُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ، فَجَوَابُهُ مَنْعُ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِخُرُوجِ مَا فِي يَدِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ يَدِهِ كَعِتْقِ الْعَبْدِ الْكَائِنِ فِي يَدِ سَيِّدِهِ الْمُعْتِقِ لَهُ، وَالنَّاذِرِ بِالْعَيْنِ الْكَائِنَةِ فِي يَدِهِ هِيَ وَقِيمَتُهَا يُوجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجَ أَحَدِهِمَا مِنْ يَدِهِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ شَرْعِيَّةٌ لَا عَقْلِيَّةٌ.
وَمِمَّا بُنِيَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا شَرَطَ الْوِلَايَةَ فِي عَزْلِ الْقَوَّامِ وَالِاسْتِبْدَالَ بِهِمْ لِنَفْسِهِ وَلِأَوْلَادِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ وَسَلَّمَهُ إلَى مُتَوَلٍّ فَهَذَا جَائِزٌ نَصَّ عَلَيْهِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يُخِلُّ بِشَرَائِطِ الْوَقْفِ، وَلَوْ لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ إلَى قَيِّمٍ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا وِلَايَةَ لَهُ وَالْوِلَايَةُ لِلْقَيِّمِ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ وَلَهُ وَصِيٌّ فَلَا وِلَايَةَ لِوَصِيِّهِ وَالْوِلَايَةُ لِلْقَيِّمِ، وَلَوْ أَرَادَ الْوَاقِفُ أَنْ يَعْزِلَ الْقَيِّمَ وَيَرُدَّهُ لِنَفْسِهِ أَوْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْوِلَايَةُ لِلْوَاقِفِ، وَلَهُ أَنْ يَعْزِلَ الْقَيِّمَ فِي حَيَاتِهِ وَيُوَلِّيَ غَيْرَهُ أَوْ يَرُدَّ النَّظَرَ إلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا مَاتَ الْوَاقِفُ بَطَلَ وِلَايَةُ الْقَيِّمِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ عِنْدَهُ، وَهَذَا الْخِلَافُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْقَيِّمِ فَلَا يَكُونُ لِلْوَاقِفِ وِلَايَةٌ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِدُونِ التَّسْلِيمِ إلَى الْقَيِّمِ يَتِمُّ الْوَقْفُ، فَإِذَا سَلَّمَ إلَى قَيِّمٍ كَانَ وَكِيلَهُ، وَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ وَيَنْعَزِلَ بِمَوْتِهِ إلَّا إذَا جَعَلَهُ قَيِّمًا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ لِلْمَسْجِدِ لَا تَصِيرُ لِلْمَسْجِدِ حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَى قَيِّمِ الْمَسْجِدِ.
قولهُ: (وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ) وَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ إلَّا فِي قول عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُتَمَلَّكُ، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ بِشَرْطِ الْمَالِكِ الَّذِي هُوَ الْوَاقِفُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ لَكِنَّهُ يَنْتَقِلُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ قولهِ ثُمَّ مِنْ بَعْدِ فُلَانٍ عَلَى كَذَا.
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَقولهُ أَيْ الْقُدُورِيِّ (خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قولهُمَا)؛ لِأَنَّ الصِّحَّةَ غَيْرُ اللُّزُومِ وَهُوَ لَمْ يَقُلْ إذَا لَزِمَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ لِيَكُونَ عَلَى قول الْكُلِّ بَلْ قَالَ: إذَا صَحَّ وَصِحَّةُ الْعَقْدِ لَا تَسْتَلْزِمُ اللُّزُومَ بَلْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ الْعُقُودِ فَقَدْ يَكُونُ عَقْدٌ حُكْمُهُ اللُّزُومَ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمُهُ غَيْرَ اللُّزُومِ كَالْعَارِيَّةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَجَوَّزَ بِالصِّحَّةِ عَنْ اللُّزُومِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَوَقْفُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ وَالْقَبْضُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَذَا تَتِمَّتُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ شَرْطٌ فَكَذَا مَا يَتِمُّ بِهِ، وَهَذَا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَيَجُوزُ مَعَ الشُّيُوعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ فِيهِمَا فِي غَايَةِ الْقُبْحِ بِأَنْ يُقْبَرَ فِيهِ الْمَوْتَى سَنَةً، وَيُزْرَعَ سَنَةً وَيُصَلَّى فِيهِ فِي وَقْتٍ وَيُتَّخَذَ إصْطَبْلًا فِي وَقْتٍ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغْلَالِ وَقِسْمَةِ الْغَلَّةِ.
وَلَوْ وَقَفَهُ الْكُلَّ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مِنْهُ بَطَلَ فِي الْبَاقِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الشُّيُوعَ مُقَارَنٌ كَمَا فِي الْهِبَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْبَعْضِ أَوْ رَجَعَ الْوَارِثُ فِي الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ وَقَدْ وَهَبَهُ أَوْ أَوْقَفَهُ فِي مَرَضِهِ وَفِي الْمَالِ ضِيقٌ، لِأَنَّ الشُّيُوعَ فِي ذَلِكَ طَارِئٌ.
وَلَوْ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مُمَيَّزٌ بِعَيْنِهِ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ الشُّيُوعِ وَلِهَذَا جَازَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ الْمَمْلُوكَةُ.
قَالَ: وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ بِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا سَمَّى فِيهِ جِهَةً تَنْقَطِعُ جَازَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ.
لَهُمَا أَنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ وَأَنَّهُ يَتَأَبَّدُ كَالْعِتْقِ، فَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، فَلِهَذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ كَالتَّوْقِيتِ فِي الْبَيْعِ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُوَفَّرٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ التَّقَرُّبَ تَارَةً يَكُونُ فِي الصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ وَمَرَّةً بِالصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ تَتَأَبَّدُ فَيَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ وَقِيلَ إنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ مُنْبِئَةٌ عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ كَالْعِتْقِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ فِي بَيَانِ قولهِ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ شَرْطٌ لِأَنَّ هَذَا صَدَقَةٌ بِالْمَنْفَعَةِ أَوْ بِالْغَلَّةِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُؤَقَّتًا وَقَدْ يَكُونُ مُؤَبَّدًا فَمُطْلَقُهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَى التَّأْبِيدِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْصِيصِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقْفُ الْمَشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ تَسْلِيمِ الْوَقْفِ، فَلَمَّا شَرَطَهُ مُحَمَّدٌ قَالَ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْمَشَاعِ (لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ) وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ فَوَجَبَ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْمُتَوَلِّي فَلَا يُشْتَرَطُ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِقول أَبِي يُوسُفَ فِي خُرُوجِهِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، وَهُمْ مَشَايِخُ بَلْخَ أَخَذَ بِقولهِ فِي هَذِهِ، وَمَنْ أَخَذَ بِقول مُحَمَّدٍ فِي تِلْكَ وَهُمْ مَشَايِخُ بُخَارَى أَخَذَ بِقولهِ فِي وَقْفِ الْمَشَاعِ.
وَأَمَّا إلْحَاقُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ (الْمُنَفَّذَةِ) أَيْ الْمُنَجَّزَةِ فِي الْحَالِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ مَشَاعًا، فَكَذَا الصَّدَقَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ؛ فَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ فِي تَيْنِكَ لِمَا فِيهِمَا مِنْ التَّمْلِيكِ لِلْغَيْرِ، وَأَمَّا الْوَقْفُ فَلَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكٌ مِنْ الْغَيْرِ حَتَّى يُشْتَرَطَ قَبْضُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ إسْقَاطُ الْمِلْكِ بِلَا تَمْلِيكٍ فَلَا يَرِدُ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ فَلَا مُوْجِبَ لِاشْتِرَاطِ الْقِسْمَةِ فِيهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَشَاعَ إمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا يَحْتَمِلَهَا، فَفِيمَا يَحْتَمِلُهَا أَجَازَ أَبُو يُوسُفَ وَقْفَهُ إلَّا الْمَسْجِدَ وَالْمَقْبَرَةَ وَالْخَانَ وَالسِّقَايَةَ، وَمَنَعَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مُطْلَقًا، وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهَا اتَّفَقُوا عَلَى إجَازَةِ وَقْفِهِ إلَّا الْمَسْجِدَ وَالْمَقْبَرَةَ، فَصَارَ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ جَعْلِ الْمَشَاعِ مَسْجِدًا أَوْ مَقْبَرَةً مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهَا.
وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ وَعَدَمِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَشْرِطْهُ أَبُو يُوسُفَ أَجَازَ وَقْفَهُ، وَلَمَّا شَرَطَهُ مُحَمَّدٌ مَنَعَهُ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّائِعَ كَانَ مَقْبُوضًا لِمَالِكِهِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَهُ لَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ فَلِذَا مَنَعَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ إمْكَانِ تَمَامِ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقْسِمَ أَوَّلًا ثُمَّ يَقِفَهُ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ اعْتِبَارَ تَمَامِ الْقَبْضِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهَا، لِأَنَّهُ لَوْ قُسِمَ قَبْلَ الْوَقْفِ فَاتَ الِانْتِفَاعُ كَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ وَالْحَمَّامِ فَاكْتَفَى بِتَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِ وَقْفِ الْمَشَاعِ مُطْلَقًا مَسْجِدًا وَمَقْبَرَةً؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ يَمْنَعُ خُلُوصَ الْحَقِّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ جَوَازَ وَقْفِ الْمَشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّهَايُؤِ، وَالتَّهَايُؤُ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَحٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ مَسْجِدًا سَنَةً وَإِصْطَبْلًا لِلدَّوَابِّ سَنَةً وَمَقْبَرَةً عَامًا وَمَزْرَعَةً عَامًا أَوْ مِيضَأَةً عَامًا وَأَمَّا النَّبْشُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ الْمُهَايَأَةِ بَلْ لَيْسَ لِلشَّرِيكِ ذَلِكَ، ثُمَّ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِصِحَّتِهِ وَطَلَبَ بَعْضُهُمْ الْقِسْمَةَ لَا يَقْسِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَتَهَايَئُونَ، وَعِنْدَهُمَا يَقْسِمُ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْكُلَّ لَوْ كَانَ وَقْفًا عَلَى الْأَرْبَابِ وَأَرَادُوا الْقِسْمَةَ لَا تَجُوزُ، وَكَذَا التَّهَايُؤُ، وَعَلَيْهِ فُرِّعَ مَا لَوْ وَقَفَ دَارِهِ عَلَى سُكْنَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ مَا تَنَاسَلُوا، فَإِذَا انْقَرَضُوا كَانَتْ غَلَّتُهَا لِلْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ هَذَا الْوَقْفَ جَائِزٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، وَإِذَا انْقَرَضُوا تُكْرَى وَتُوضَعُ غَلَّتُهَا لِلْمَسَاكِينِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ السُّكْنَى أَنْ يُكْرِيَهَا، وَلَوْ زَادَتْ عَلَى قَدْرِ حَاجَةِ سُكْنَاهُ، نَعَمْ لَهُ الْإِعَارَةُ لَا غَيْرُ، وَلَوْ كَثُرَ أَوْلَادُ هَذَا الْوَاقِفِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الدَّارُ لَيْسَ لَهُمْ إلَّا سُكْنَاهَا تُقَسَّطُ عَلَى عَدَدِهِمْ؛ وَلَوْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا إنْ كَانَ فِيهَا حُجَرٌ وَمَقَاصِيرُ كَانَ لِلذُّكْرَانِ أَنْ يُسَكِّنُوا نِسَاءَهُمْ مَعَهُمْ وَلِلْإِنَاثِ أَنْ تُسَكِّنَ أَزْوَاجَهُنَّ مَعَهُنَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَرٌ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ تُقْسَمَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَقَعُ فِيهَا مُهَايَأَةٌ إنَّمَا سُكْنَاهُ لِمَنْ جَعَلَ لَهُ الْوَاقِفُ ذَلِكَ لَا لِغَيْرِهِمْ، وَمِنْ هَذَا يُعْرَفُ أَنَّ لَوْ سَكَنَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَجِدْ الْآخَرُ مَوْضِعًا يَكْفِيهِ لَا يَسْتَوْجِبُ أُجْرَةَ حِصَّتِهِ عَلَى السَّاكِنِ، بَلْ إنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْكُنَ مَعَهُ فِي بُقْعَةٍ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ بِلَا زَوْجَةٍ أَوْ زَوْجٍ إنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ ذَلِكَ، وَإِلَّا تَرَكَ الْمُتَضَيِّقُ وَخَرَجَ أَوْ جَلَسُوا مَعًا كُلٌّ فِي بُقْعَةٍ إلَى جَنْبِ الْآخَرِ.
وَالْأَصْلُ الْمَذْكُورُ فِي الشُّرُوحِ وَالْفَرْعِ فِي أَوْقَافِ الْخَصَّافِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْت، وَكَيْفَ يُخَالِفُ، وَقَدْ نَقَلُوا إجْمَاعَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ؛ وَلَوْ اقْتَسَمَا: أَعْنِي الْوَاقِفَ لِلْمَشَاعِ وَشَرِيكَهُ عَلَى الْقول بِلُزُومِ الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوْ قَبْلَهُ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ فَوَقَعَ نَصِيبُ الْوَاقِفِ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ كَانَ هُوَ الْوَقْفُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَهُ ثَانِيًا.
قولهُ: (وَلَوْ وَقَفَ الْكُلَّ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مِنْهُ) يَعْنِي شَائِعًا (بَطَلَ الْوَقْفُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ)؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّ الشُّيُوعَ كَانَ مُقَارِنًا لِلْوَقْفِ (كَمَا فِي الْهِبَةِ) إذَا وَهَبَ الْكُلَّ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهُ بَطَلَتْ لِهَذَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَهَبَ الْكُلَّ (ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْبَعْضِ أَوْ رَجَعَ الْوَارِثُ فِي الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ) الَّذِي وَقَفَ فِي مَرَضِهِ الْكُلَّ، وَلَا يُخْرَجُ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْبَاقِيَ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ طَارَ، وَإِذَا بَطَلَ الْوَقْفُ فِي الْبَاقِي رَجَعَ إلَى الْوَاقِفِ لَوْ كَانَ حَيًّا وَإِلَى وَرَثَتِهِ إنْ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْوَاقِفِ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مَا يَجْعَلُهُ وَقْفًا (وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ جُزْءًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ الشُّيُوعِ) فَلِهَذَا جَازَ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يَقِفَ ذَلِكَ الْبَاقِيَ فَقَطْ (وَعَلَى هَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ الْمَمْلُوكَةُ) لَوْ اُسْتُحِقَّ مِنْهُمَا جُزْءٌ شَائِعٌ بَطَلَتْ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّ مُعَيَّنٌ لَا تَبْطُلُ.
وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوَقَفَاهَا عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَدَفَعَاهَا إلَى وَالٍ يَقُومُ عَلَيْهَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ تَمَامِ الصَّدَقَةِ شُيُوعٌ فِي الْمَحَلِّ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ، وَلَا شُيُوعَ هُنَا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَدَقَةٌ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ ذَلِكَ مَعَ كَثْرَةِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْقَبْضِ مِنْ الْوَالِي فِي الْكُلِّ وُجِدَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَهَا شَائِعًا عَلَى حِدَةٍ وَجَعَلَ لَهَا وَالِيًا عَلَى حِدَةٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا صَدَقَتَانِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَصَدَّقَ بِنَصِيبِهِ بِعُقْدَةٍ عَلَى حِدَةٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ لِنَصِيبِهِ وَالِيًا عَلَى حِدَةٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ أَيْضًا لَا يَجُوزُ، حَتَّى لَوْ تَصَدَّقَ بِنِصْفِهَا مَشَاعًا عَلَى رَجُلٍ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَصَدَّقَ الْآخَرُ بِالنِّصْفِ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَبْضَ كُلٍّ مِنْهُمَا لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا؛ فَكَذَا قَبْضُ الْوَالِيَيْنِ هُنَا.
وَلَوْ وَقَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ وَجَعَلَا الْوَالِيَ وَاحِدًا فَسَلَّمَاهَا إلَيْهِ جَمِيعًا جَازَ؛ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِالْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ مُجْتَمِعٌ.
قولهُ: (وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا) كَالْمَسَاكِينِ وَمَصَالِحِ الْحَرَمِ وَالْمَسَاجِدِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ لَا يَصِحُّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُخَرِّبَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا سَمَّى جِهَةً تَنْقَطِعُ جَازَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ) هَذَا كَلَامُ الْقُدُورِيِّ.
وَهَذَا كَمَا تَرَى لَا يُنَاسِبُ اسْتِدْلَالَ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَبِي يُوسُفَ بِقولهِ (إنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ) يَعْنِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَبَعْدَ الْحُكْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (زَوَالُ الْمِلْكِ بِلَا تَمْلِيكٍ وَزَوَالُهُ يَتَأَبَّدُ بِعِتْقٍ، وَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، وَلِهَذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ) كَمَا لَوْ وَقَفَ عِشْرِينَ سَنَةً لَا يَصِحُّ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ لَوْ قَالَ بِجَوَازِ انْقِطَاعِهِ وَعَوْدِهِ إلَى الْوَاقِفِ بَعْدَ انْقِطَاعِ تِلْكَ الْجِهَةِ أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ إذَا انْقَطَعَتْ صَارَ لِلْفُقَرَاءِ.
ثُمَّ نَقَلَ الْقُدُورِيُّ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ثَابِتًا عَنْهُ مِنْ التَّأْبِيدِ حَيْثُ قَالَ: (وَقِيلَ إنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَشْتَرِطُ ذِكْرَ التَّأْبِيدِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ مُنْبِئٌ عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ كَالْعِتْقِ) وَعِنْدَهُمَا يُشْتَرَطُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ هَذَا صَدَقَةٌ بِالْمَنْفَعَةِ) إنْ كَانَ وَقَفَ لِلسُّكْنَى (أَوْ بِالْغَلَّةِ) إنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَرَ السُّكْنَى، (وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مُؤَبَّدًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُؤَبَّدٍ فَمُطْلَقُهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَى الْمُؤَبَّدِ) بِعَيْنِهِ (فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْصِيصِ) عَلَيْهِ فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُولِيَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لِمَا نَقَلَهُ مِنْ عِبَارَةِ الْقُدُورِيِّ؛ ثُمَّ يَذْكُرَ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى وَيَذْكُرَ دَلِيلَهُمَا الْأَوَّلَ.
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا يُنَاسِبُ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْجِهَةِ يَرْجِعُ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ أَوْ ذُرِّيَّتِهِ، وَقَدْ نَقَلَ مِنْ الْفُرُوعِ مَا يَدُلُّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَمِنْهَا مَا فِي الْمَبْسُوطِ فِيمَا إذَا تَصَدَّقَ عَلَى أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَجَعَلَ لَهُنَّ السُّكْنَى بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَأَيُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ مِنْهُنَّ أَوْ خَرَجَتْ مُنْتَقِلَةً إلَى غَيْرِهِ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي السُّكْنَى، وَنَصِيبُهَا مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ بَقِيَتْ مِنْهُنَّ، فَذَلِكَ جَائِزٌ اعْتِبَارًا لِلسُّكْنَى بِالْغَلَّةِ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَصِحُّ مِنْهُ لَهُنَّ فِي الْغَلَّةِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ مَنْ بَقِيَ مِنْهُنَّ كَانَ مِيرَاثًا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَوَسَّعُ فِي أَمْرِ الْوَقْفِ فَلَا يَشْتَرِطُ التَّأْبِيدَ، وَاشْتِرَاطُ الْعَوْدِ إلَى الْوَرَثَةِ عِنْدَ زَوَالِ حَاجَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا يُفَوِّتُ مُوجَبَ الْعَقْدِ عِنْدَهُ، فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّأْبِيدُ شَرْطٌ وَاشْتِرَاطُ الْعَوْدِ إلَى الْوَرَثَةِ يُبْطِلُ هَذَا الشَّرْطَ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ وَصِيَّةً عِنْدَ مَوْتِهِ فَيَجُوزُ كَالْوَصِيَّةِ لِمَعْلُومٍ بِسُكْنَى دَارِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَلْزَمَ وَيَعُودَ إلَى الْوَرَثَةِ إذَا سَقَطَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا نُقِلَ لِلنَّاطِفِيِّ فِي الْأَجْنَاسِ عَنْ شُرُوطِ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا وَقَفَ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ جَازَ، وَإِذَا مَاتَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ رَجَعَ الْوَقْفُ إلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ.
قَالَ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَإِذَا عُرِفَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ جَوَازُ عَوْدِهِ إلَى الْوَرَثَةِ فَقَدْ يَقول فِي وَقْفِ عِشْرِينَ سَنَةً بِالْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ أَصْلًا، وَمِنْهَا مَا ذُكِرَ فِي الْبَرَامِكَةِ.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا انْقَرَضَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ يُصْرَفُ الْوَقْفُ إلَى الْفُقَرَاءِ.
قَالَ فِي الْأَجْنَاسِ: فَحَصَلَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي تَقَدَّمَ وَهُوَ قولهُ مَنْ تَزَوَّجَتْ أَوْ خَرَجَتْ مُنْتَقِلَةً عَنْهُ فَلَا حَقَّ لَهَا فَصَحِيحٌ، فَلَوْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ أَوْ عَادَتْ بَعْدَمَا انْتَقَلَتْ لَا يَرْجِعُ لَهَا مَا كَانَ لَهَا فِي الْوَقْفِ، بَلْ قَدْ سَقَطَ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ اسْتِحْقَاقَهَا بِأَحَدِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَا يَعُودُ إلَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ فَيَقول فَإِنْ عَادَتْ أَوْ فَارَقَتْ عَادَ مَا كَانَ لَهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ) لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَفُوهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ) وَهُوَ الْأَرْضُ مَبْنِيَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَبْنِيَّةٍ وَيَدْخُلُ الْبِنَاءُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ تَبَعًا فَيَكُونُ وَقْفًا مَعَهَا.
وَفِي دُخُولِ الشَّجَرِ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُمَا فِي الْخُلَاصَةِ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: تَدْخُلُ الْأَشْجَارُ وَالْبِنَاءُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ كَمَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَيَدْخُلُ الشُّرْبُ وَالطَّرِيقُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تُوقَفُ إلَّا لِلِاسْتِغْلَالِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمَاءِ وَالطَّرِيقِ فَيَدْخُلَانِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَلَا تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ الْقَائِمَةُ وَقْتَ الْوَقْفِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تُؤْكَلُ أَوْ لَا كَالْوَرْدِ وَالرَّيَاحِينِ؛ وَلَوْ قَالَ وَقَفْتهَا بِحُقُوقِهَا وَجَمِيعِ مَا فِيهَا وَمِنْهَا قَالَ هِلَالٌ: لَا تَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ أَيْضًا، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُ التَّصَدُّقُ بِهَا عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً بِجَمِيعِ مَا فِيهَا وَمِنْهَا فَقَدْ تَكَلَّمَ بِمَا يُوجِبُ التَّصَدُّقَ، وَلَا تَدْخُلُ الزُّرُوعُ كُلُّهَا إلَّا مَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ لَا يُقْطَعُ فِي سَنَةٍ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ شَجَرٍ يُقْطَعُ فِي سَنَةٍ فَهُوَ لِلْوَاقِفِ، وَمَا لَا يُقْطَعُ فِي سَنَةٍ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْوَقْفِ؛ فَيَدْخُلُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ أُصُولُ الْبَاذِنْجَانِ وَقَصَبُ السُّكَّرِ، وَيَدْخُلُ فِي وَقْفِ الْحَمَامِ الْقِدْرُ وَمُلْقَى سِرْقِينِهِ وَرَمَادِهِ، وَلَا يَدْخُلُ مَسِيلُ مَاءٍ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ طَرِيقٍ.
وَقولهُ (لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَقَفُوهُ) قَدَّمْنَا ذِكْرَ جَمَاعَةٍ مِنْ الرِّجَالِ الصَّحَابَةِ وَنِسَائِهِمْ وَقَفُوا، وَأَسَانِيدُهَا مَذْكُورَةٌ فِي وَقْفِ الْخَصَّافِ.
وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَقْفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْضَهُ ثَمْغَ.
وَأَخْرَجَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِهِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّام رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَ دَارًا لَهُ عَلَى الْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ.
قَالَ: وَالْمَرْدُودَةُ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ وَالْفَاقِدَةُ الَّتِي مَاتَ زَوْجُهَا.
وَفِي الْبُخَارِيِّ: «وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضًا وَجَعَلَهَا لِابْنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً».
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ فِيهِ الْوَاقِدِيُّ وَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَنَا وَسَكَتَ هُوَ عَلَيْهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقول: أَنَا ابْنُ سَبْعِ الْإِسْلَامِ أَسْلَمَ أَبِي سَابِعَ سَبْعَةٍ.
وَكَانَتْ دَارُهُ عَلَى الصَّفَا وَهِيَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ فِيهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَفِيهَا دَعَا النَّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسُمِّيَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَتَصَدَّقَ بِهَا الْأَرْقَمُ عَلَى وَلَدِهِ.
وَذَكَرَ أَنَّ نُسْخَةَ صَدَقَتِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَضَى الْأَرْقَمُ، إلَى أَنْ قَالَ: لَا تُبَاعُ وَلَا تُورَثُ.
وَفِي الْخِلَافِيَّاتِ لِلْبَيْهَقِيِّ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ: وَتَصَدَّقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَارِهِ بِمَكَّةَ عَلَى وَلَدِهِ فَهِيَ إلَى الْيَوْمِ، وَتَصَدَّقَ عُمَرُ بِرُبْعِهِ، وَتَصَدَّقَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَارِهِ بِالْمَدِينَةِ وَبِدَارِهِ بِمِصْرَ عَلَى وَلَدِهِ فَذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ، وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرُومَةَ فَهِيَ إلَى الْيَوْمِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِالْوَهْطِ مِنْ الطَّائِفِ وَدَارِهِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَلَى وَلَدِهِ فَذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ.
قَالَ: وَمَا لَا يَحْضُرُنِي كَثِيرٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ إجَازَتِهِ الْوَقْفَ.
فَرْعٌ:
إذَا كَانَتْ الدَّارُ مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً صَحَّ وَقْفُهَا وَإِنْ لَمْ تُحَدَّدْ اسْتِغْنَاءً لِشُهْرَتِهَا عَنْ تَحْدِيدِهَا.
فَرْعٌ آخَرُ:
وَقَفَ عَقَارًا عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ هَيَّأَ مَكَانًا لِبِنَائِهَا قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَهَا اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ وَتُصْرَفُ غَلَّتُهَا إلَى الْفُقَرَاءِ إلَى أَنْ تُبْنَى، فَإِذَا بُنِيَتْ رُدَّتْ إلَيْهَا الْغَلَّةُ أَخْذًا مِنْ الْوَقْفِ عَلَى أَوْلَادِ فُلَانٍ وَلَا أَوْلَادَ لَهُ حَكَمُوا بِصِحَّتِهِ، وَتُصْرَفُ غَلَّتُهُ لِلْفُقَرَاءِ إلَى أَنْ يُولَدَ لِفُلَانٍ.

متن الهداية:
(وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا عَلَى الْإِرْسَالِ قول أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأُكْرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ جَازَ) وَكَذَا سَائِرُ آلَاتِ الْحِرَاسَةِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ فِي تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَقَدْ يَثْبُتُ مِنْ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالشُّرْبِ فِي الْبَيْعِ وَالْبِنَاءِ فِي الْوَقْفِ، وَمُحَمَّدٌ مَعَهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إفْرَادُ بَعْضِ الْمَنْقول بِالْوَقْفِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ يَجُوزَ الْوَقْفُ فِيهِ تَبَعًا أَوْلَى.
(وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ حَبْسُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ) وَمَعْنَاهُ وَقْفُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِيهِ عَلَى مَا قَالُوا، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ.
الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِ: مِنْهَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ حَبَسَ أَدْرُعًا وَأَفْرَاسًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَلْحَةُ حَبَسَ دُرُوعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى» وَيُرْوَى «أَكْرَاعُه».
وَالْكُرَاعُ: الْخَيْلُ.
وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ الْإِبِلُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا، وَكَذَا السِّلَاحُ يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُ مَا فِيهِ تَعَامُلٌ مِنْ الْمَنْقولاتِ كَالْفَأْسِ وَالْمَرِّ وَالْقَدُومِ وَالْمِنْشَارِ وَالْجِنَازَةِ وَثِيَابِهَا وَالْقُدُورِ وَالْمَرَاحِلِ وَالْمَصَاحِفِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُتْرَكُ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ.
وَمُحَمَّدٌ يَقول: الْقِيَاسُ قَدْ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَقَدْ وُجِدَ التَّعَامُلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَعَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ وَقَفَ كُتُبَهُ إلْحَاقًا لَهَا بِالْمَصَاحِفِ، وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمْسَكُ لِلدِّينِ تَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا وَقِرَاءَةً، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى قول مُحَمَّدٍ، وَمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَقْفُهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ يَجُوزُ وَقْفُهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْعَقَارَ وَالْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ.
وَلَنَا أَنَّ الْوَقْفَ فِيهِ لَا يَتَأَبَّدُ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَصَارَ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، بِخِلَافِ الْعَقَارِ، وَلَا مُعَارِضَ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ وَلَا مِنْ حَيْثُ التَّعَامُلُ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقَارَ يَتَأَبَّدُ، وَالْجِهَادُ سَنَامُ الدِّينِ، فَكَانَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِمَا أَقْوَى فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ) كَذَا قَالَ الْقُدُورِيُّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَهَذَا عَلَى الْإِرْسَالِ) أَيْ عَلَى الْإِطْلَاقِ (قول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) ثُمَّ قَالَ الْقُدُورِيُّ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأُكْرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ جَازَ) وَالْأُكْرَةُ الْحَرَّاثُونَ (وَكَذَا آلَاتُ الْحِرَاثَةِ) إذَا كَانَتْ تَبَعًا لِلْأَرْضِ يَجُوزُ (لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْأَرْضِ فِي تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ) مِنْهَا (وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَبَيْعِ الشُّرْبِ) وَالطَّرِيقُ لَا يَجُوزُ مَقْصُودًا وَيَجُوزُ تَبَعًا، وَهَذَا كَثِيرٌ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْعَدِّ.
وَلَوْ مَرِضَ بَعْضُهُمْ فَتَعَطَّلَ عَنْ الْعَمَلِ إنْ كَانَ الْوَاقِفُ جَعَلَ نَفَقَتَهُمْ فِي مَالِ الْوَقْفِ وَصَرَّحَ بِهَا فَهِيَ فِي مَالِ الْوَقْفِ وَإِلَّا لَا نَفَقَةَ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي مَالِ الْوَقْفِ فَلِلْقَيِّمِ أَنْ يَبِيعَ مَنْ عَجَزَ، وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ آخَرَ يَعْمَلُ كَمَا لَوْ قُتِلَ فَأَخَذَ دِيَتَهُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا آخَرَ، وَلَوْ جَنَى أَحَدُهُمْ جِنَايَةً فَعَلَى الْقَيِّمِ أَنْ يَنْظُرَ، فَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ دَفْعَ هَذَا الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ دَفَعَهُ أَوْ فِدَاءَهُ فَدَاهُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ، وَإِذَا فَدَاهُ بِفِدْيَةٍ تَزِيدُ عَلَى أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِالزِّيَادَةِ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْوَقْفِ مِنْ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ شَيْءٌ، فَإِنْ فَدَوْهُ كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ (وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ) يَعْنِي فَلَا مَعْنَى لِإِفْرَادِ أَبِي يُوسُفَ (لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إفْرَادُ بَعْضِ الْمَنْقولاتِ بِالْوَقْفِ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَتَجْوِيزُهُ تَبَعًا لِلْعَقَارِ أَوْلَى وَضَمِيرُ لِأَنَّهُ لِلشَّأْنِ، أَمَّا لَوْ وَقَفَ ضَيْعَةً فِيهَا بَقَرٌ وَعَبِيدٌ لَهُ وَلَمْ يَذْكُرْهُمْ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ الْآلَاتِ وَالْبَقَرِ وَالْعَبِيدِ فِي الْوَقْفِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ حَبْسُ الْكُرَاعِ) وَهِيَ الْخَيْلُ وَالسِّلَاحُ، (وَمَعْنَاهُ وَقْفُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ) أَيْضًا فِي ذَلِكَ (عَلَى مَا قَالُوا، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ) مِنْ شَرْطِ التَّأْبِيدِ وَالْمَنْقول لَا يَتَأَبَّدُ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِ) أَيْ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ.
مِنْهَا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَمَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إلَّا أَنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا وَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا، ثُمَّ قَالَ: أَمَا شَعَرْت أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» وَأَمَّا مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ طَلْحَةَ حَبَسَ دُرُوعَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فَلَمْ يُعْرَفْ، وَكَذَا لَمْ يُعْرَفْ جَمْعُهُ عَلَى أَكْرَاعٍ؛ لِأَنَّ فُعَالًا لَا يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ بَلْ عَلَى أَفْعُلٍ كَعُقَابٍ وَأَعْقُبٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ لَهُ فِي الصِّحَاحِ صِيغَتَيْ جَمْعٍ، قَالَ: فَالْجَمْعُ أَكْرُعٌ ثُمَّ أَكَارِعٌ، إلَّا أَنَّ الطَّبَرَانِيَّ أَخْرَجَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ الْوَفَاةُ قَالَ: لَقَدْ طَلَبْت الْقَتْلَ فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي إلَّا أَنْ أَمُوتَ عَلَى فِرَاشِي، وَمَا مِنْ عَمَلٍ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَأَنَا مُتَتَرِّسٌ، ثُمَّ قَالَ: إذَا أَنَا مِتّ فَانْظُرُوا سِلَاحِي وَفَرَسِي فَاجْعَلُوهُ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا السَّنَدِ فِي تَارِيخِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَقَالَ فِيهِ: مَا مِنْ عَمَلٍ أَرْجَى عِنْدِي بَعْدَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِنْ لَيْلَةٍ بِتُّهَا وَأَنَا مُتَتَرِّسٌ وَالسَّمَاءُ تَهُلْنِي نَنْظُرُ الصُّبْحَ حَتَّى نُغِيرَ عَلَى الْكُفَّارِ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْإِبِلُ تَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ بِالدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ يَغْزُونَ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ أُمَّ مَعْقِلٍ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا مَعْقِلٍ جَعَلَ نَاضِحَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ أَفَأَرْكَبُهُ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْكَبِيهِ فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وَالْحَاصِلُ أَنَّ وَقْفَ الْمَنْقول تَبَعًا لِلْعَقَارِ يَجُوزُ.
وَأَمَّا وَقْفُهُ مَقْصُودًا، إنْ كَانَ كُرَاعًا أَوْ سِلَاحًا جَازَ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ إنْ كَانَ مِمَّا لَمْ يَجْرِ التَّعَامُلُ بِوَقْفِهِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ مُتَعَارَفًا كَالْجِنَازَةِ وَالْفَأْسِ وَالْقَدُومِ وَثِيَابِ الْجِنَازَةِ وَمِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَوَانِي وَالْقُدُورِ فِي غُسْلِ الْمَوْتَى وَالْمَصَاحِفِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
وَفِي الْفَتَاوَى لِقَاضِي خَانْ.
وَقَفَ بِنَاءً بِدُونِ أَرْضٍ قَالَ هِلَالٌ: لَا يَجُوزُ انْتَهَى.
لَكِنْ فِي الْخَصَّافِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا كَانَتْ مُتَقَرِّرَةً لِلِاحْتِكَارِ جَازَ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ وَقَفَ بِنَاءَ دَارٍ لَهُ دُونَ الْأَرْضِ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ، قِيلَ لَهُ فَمَا تَقول فِي حَوَانِيتِ السُّوقِ إنْ وَقَفَ رَجُلٌ حَانُوتًا مِنْهَا؟ قَالَ: إنْ كَانَ الْأَرْضُ إجَارَةً فِي أَيْدِي الْقَوْمِ الَّذِينَ بَنَوْهَا لَا يُخْرِجُهُمْ السُّلْطَانُ عَنْهَا فَالْوَقْفُ جَائِزٌ لِأَنَّا رَأَيْنَاهَا فِي أَيْدِي أَصْحَابِ الْبِنَاءِ يَتَوَارَثُونَهَا وَتُقْسَمُ بَيْنَهُمْ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ السُّلْطَانُ وَلَا يُزْعِجُهُمْ عَنْهَا، وَإِنَّمَا لَهُ غَلَّةٌ يَأْخُذُهَا وَتَدَاوَلَهَا الْخُلَفَاءُ وَمَضَى عَلَيْهِ الدُّهُورُ وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمْ يَتَبَايَعُونَهَا وَيُؤَاجِرُونَهَا وَتَجُوزُ فِيهَا وَصَايَاهُمْ وَيَهْدِمُونَ بِنَاءَهَا وَيَبْنُونَ غَيْرَهُ، فَأَفَادَ أَنَّ مَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ جَازَ وَقْفُ الْبُنْيَانِ فِيهِ وَإِلَّا فَلَا.
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إذَا بَنَى قَنْطَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ وَلَا يَكُونُ بِنَاؤُهَا مِيرَاثًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ إنَّمَا خَصَّ الْبِنَاءَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ تُتَّخَذَ عَلَى جَنْبَتَيْ النَّهْرِ الْعَامِّ وَذَلِكَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وَقْفِ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَصْلِ.
ثُمَّ نَقَلَ عَنْ الْأَصْلِ أَنَّ وَقْفَ الْبِنَاءِ بِدُونِ أَصْلِ الدَّارِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْبِنَاءِ فِي أَرْضٍ هِيَ عَارِيَّةٌ أَوْ إجَارَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا لِوَاقِفِ الْبِنَاءِ جَازَ عِنْدَ الْبَعْضِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا كَانَ الْبِنَاءُ فِي أَرْضِ وَقْفٍ جَازَ وَقْفُهُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَكُونُ الْأَرْضُ وَقْفًا عَلَيْهَا.
ذَكَرَ الْكُلَّ فِي الْفَتَاوَى.
وَإِطْلَاقُ الْإِجَارَةِ يُعَارِضُ قول الْخَصَّافِ فِي أَرْضِ الْحُكُورِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ تَخْصِيصَهَا بِسَبَبِ أَنَّهَا صَارَتْ كَالْأَمْلَاكِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَسَمِعْته.
وَفِي الْخُلَاصَةِ، إذَا وَقَفَ مُصْحَفًا عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إنْ كَانُوا يُحْصُونَ جَازَ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى الْمَسْجِدِ جَازَ وَيُقْرَأُ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَا يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا وَقْفُ الْكُتُبِ فَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ لَا يُجِيزُهُ وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى يُجِيزُهُ وَوَقَفَ كُتُبَهُ، وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ يُجِيزُهُ وَبِهِ نَأْخُذُ.
وَجْهُ قول أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عَلَى خِلَافِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ (وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقول: الْقِيَاسُ يَنْزِلُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَقَدْ وُجِدَ التَّعَامُلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَعَلَى قول مُحَمَّدٍ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ عِنْدَنَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ مَا أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ يَجُوزُ وَقْفُهُ، وَهَذَا قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ أَيْضًا.
وَأَمَّا وَقْفُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْإِتْلَافِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ فَغَيْرُ جَائِزٍ فِي قول عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَمَا لَيْسَ بِحُلِيٍّ.
وَأَمَّا الْحُلِيُّ فَيَصِحُّ وَقْفُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ابْتَاعَتْ حُلِيًّا بِعِشْرِينَ أَلْفًا فَحَبَسَتْهُ عَلَى نِسَاءِ آلِ الْخَطَّابِ فَكَانَتْ لَا تُخْرِجُ زَكَاتَهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ، وَأَنْكَرَ الْحَدِيثَ، ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي.
وَحَاصِلُ وَجْهِ الْجَمَاعَةِ الْقِيَاسُ عَلَى الْكُرَاعِ، وَعَارَضَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ حُكْمَ الْوَقْفِ الشَّرْعِيِّ التَّأْبِيدُ وَلَا يَتَأَبَّدُ غَيْرُ الْعَقَارِ، غَيْرَ أَنَّهُ تُرِكَ فِي الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ سَنَامُ الدِّينِ، فَكَانَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِمَا أَقْوَى، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْوَقْفِ فِيهِمَا شَرْعِيَّتُهُ فِيمَا هُوَ دُونَهُمَا، وَلَا يُلْحَقُ دَلَالَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا.
وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَقَدْ زَادَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَشْيَاءَ مِنْ الْمَنْقول عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لِمَا رَأَوْا مِنْ جَرَيَانِ التَّعَامُلِ فِيهَا.
فَفِي الْخُلَاصَةِ: وَقَفَ بَقَرَةً عَلَى أَنَّ مَا يَخْرُجُ مِنْ لَبَنِهَا وَسَمْنِهَا يُعْطَى لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ قَالَ: إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ غَلَبَ ذَلِكَ فِي أَوْقَافِهِمْ رَجَوْت أَنْ يَكُونَ جَائِزًا.
وَعَنْ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ زُفَرَ فِيمَنْ وَقَفَ الدَّرَاهِمَ أَوْ الطَّعَامَ أَوْ مَا يُكَالُ أَوْ مَا يُوزَنُ أَيَجُوزُ ذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ، قِيلَ وَكَيْفَ؟ قَالَ يَدْفَعُ الدَّرَاهِمَ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا فِي الْوَجْهِ الَّذِي وَقَفَ عَلَيْهِ، وَمَا يُكَالُ وَمَا يُوزَنُ يُبَاعُ وَيُدْفَعُ ثَمَنُهُ مُضَارَبَةً أَوْ بِضَاعَةً.
قَالَ: فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إذَا وَقَفَ هَذَا الْكُرَّ مِنْ الْحِنْطَةِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يُقْرَضَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا بَذْرَ لَهُمْ لِيَزْرَعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَدْرُ الْقَرْضِ، ثُمَّ يُقْرَضُ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ أَبَدًا عَلَى هَذَا السَّبِيلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا.
قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الرَّيِّ وَنَاحِيَةِ دَنْبَاوَنْدَ، وَالْأَكْسِيَةُ وَأَسْتِرَةُ الْمَوْتَى إذَا وَقَفَ صَدَقَةً أَبَدًا جَازَ فَتُدْفَعُ الْأَكْسِيَةُ لِلْفُقَرَاءِ فَيَنْتَفِعُونَ بِهَا فِي أَوْقَاتِ لُبْسِهَا؛ وَلَوْ وَقَفَ ثَوْرًا لِإِنْزَاءِ بَقَرِهِمْ لَا يَصِحُّ.
ثُمَّ إذَا عَرَفَ جَوَازَ وَقْفِ الْفَرَسِ وَالْجَمَلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَوْ وَقَفَهُ عَلَى أَنْ يَمْسِكَهُ مَا دَامَ حَيًّا إنْ أَمْسَكَهُ لِلْجِهَادِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ لِجَاعِلِ فَرَسِ السَّبِيلِ أَنْ يُجَاهِدَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَصَحَّ جَعْلُهُ لِلسَّبِيلِ: يَعْنِي يَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَيَصِحُّ وَقْفُهُ، وَلَا يُؤَاجَرُ فَرَسُ السَّبِيلِ إلَّا إذَا اُحْتِيجَ إلَى نَفَقَتِهِ فَيُؤَاجَرُ بِقَدْرِ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ.
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَهَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا احْتَاجَ إلَى نَفَقَةٍ يُؤَاجِرُ قِطْعَةً مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ.اهـ.
وَهَذَا عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْقُبْحِ الَّذِي لِأَجْلِهِ اسْتَثْنَى أَبُو يُوسُفَ الْمَسْجِدَ مِنْ وَقْفِ الْمَشَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ عَامًا وَإِصْطَبْلًا يُرْبَطُ فِيهِ الدَّوَابُّ عَامًا، وَلَوْ قِيلَ إنَّمَا يُؤَاجَرُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَنَقول غَايَةُ مَا يَكُونُ لِلسُّكْنَى وَيَسْتَلْزِمُ جَوَازَ الْمُجَامَعَةِ فِيهِ وَإِقَامَةَ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ فِيهِ، وَلَوْ قِيلَ لَا يُؤَاجَرُ لِذَلِكَ فَكُلُّ عَمَلٍ يُؤَاجَرُ لَهُ فِيهِ تَغْيِيرُ أَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بِاحْتِيَاجِهِ إلَى النَّفَقَةِ لَا تَتَغَيَّرُ أَحْكَامُهُ الشَّرْعِيَّةُ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا.
نَعَمْ إنْ خَرِبَ مَا حَوْلَهُ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَتَجِبُ عِمَارَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ أَيْضًا: يَجُوزُ وَقْفُ الْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي عَلَى مَصَالِحِ الرِّبَاطِ، وَإِذَا زَوَّجَ السُّلْطَانُ أَوْ الْقَاضِي جَارِيَةَ الْوَقْفِ يَجُوزُ، وَلَوْ زَوَّجَ عَبْدَ الْوَقْفِ لَا يَجُوزُ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ اكْتِسَابًا لِلْوَقْفِ دُونَ الثَّانِي، وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَ أَمَةَ الْوَقْفِ مِنْ عَبْدِ الْوَقْفِ لَا يَجُوزُ.
وَمِنْ فُرُوعِ وَقْفِ الْمَنْقول وَقْفُ دَارٍ فِيهَا حَمَّامَاتٌ يَخْرُجْنَ وَيَرْجِعْنَ يَدْخُلُ فِي وَقْفِهِ الْحَمَّامَاتُ الْأَصْلِيَّةُ قَالَ الْفَقِيهُ: هُوَ كَوَقْفِ الضَّيْعَةِ مَعَ الثِّيرَانِ.
وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ عَمَّنْ وَقَفَ شَجَرَةً بِأَصْلِهَا وَالشَّجَرَةُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِأَوْرَاقِهَا وَثَمَرِهَا قَالَ: الْوَقْفُ جَائِزٌ وَيُنْتَفَعُ بِثَمَرِهَا وَلَا يُقْطَعُ أَصْلُهَا إلَّا أَنْ تَفْسُدَ أَغْصَانُهَا، فَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِأَوْرَاقِهَا وَثَمَرِهَا فَإِنَّهَا تُقْطَعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهَا إلَى سَبِيلِهِ، فَإِنْ نَبَتَتْ ثَانِيًا وَإِلَّا غَرَسَ مَكَانَهَا.
وَسُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ عَنْ شَجَرَةِ وَقْفٍ يَبِسَ بَعْضُهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا فَقَالَ: مَا يَبِسَ مِنْهَا فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ غَلَّتِهَا، وَمَا بَقِيَ مَتْرُوكٌ عَلَى حَالِهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا تَمْلِيكُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشَاعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَطْلُبُ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ فَيَصِحُّ مُقَاسَمَتُهُ) أَمَّا امْتِنَاعُ التَّمْلِيكِ فَلِمَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا جَوَازُ الْقِسْمَةِ فَلِأَنَّهَا تَمْيِيزٌ وَإِفْرَازٌ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْغَالِبَ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، إلَّا أَنَّ فِي الْوَقْفِ جَعَلْنَا الْغَالِبَ مَعْنَى الْإِفْرَازِ نَظَرًا لِلْوَقْفِ فَلَمْ تَكُنْ بَيْعًا وَتَمْلِيكًا؛ ثُمَّ إنْ وَقَفَ نَصِيبَهُ مِنْ عَقَارٍ مُشْتَرَكٍ فَهُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْوَاقِفِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ إلَى وَصِيَّةٍ، وَإِنْ وَقَفَ نِصْفَ عَقَارٍ خَالِصٍ لَهُ فَاَلَّذِي يُقَاسِمُهُ الْقَاضِي أَوْ يَبِيعُ نَصِيبَهُ الْبَاقِي مِنْ رَجُلٍ، ثُمَّ يُقَاسِمُهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَشْتَرِي ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَاسِمًا وَمُقَاسَمًا، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْلُ دَرَاهِمَ إنْ أَعْطَى الْوَاقِفَ لَا يَجُوزُ لِامْتِنَاعِ بَيْعِ الْوَقْفِ، وَإِنْ أَعْطَى الْوَاقِفَ جَازَ وَيَكُونُ بِقَدْرِ الدَّرَاهِمِ شِرَاءً.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ) أَيْ لَزِمَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي قول الْقُدُورِيِّ وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ.
ثُمَّ قولهُ (لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا تَمْلِيكُهُ) هُوَ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ (إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشَاعًا فَيَطْلُبَ شَرِيكُهُ الْقِسْمَةَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَتَصِحُّ مُقَاسَمَتُهُ، أَمَّا امْتِنَاعُ التَّمْلِيكِ فَلِمَا بَيَّنَّا) مِنْ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ» وَمِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى آخِرِهِ، وَلِأَنَّهُ بِاللُّزُومِ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَبِلَا مِلْكٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْبَيْعِ (وَأَمَّا جَوَازُ الْقِسْمَةِ) أَيْ عِنْدَهُمَا، فَإِنَّ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِصِحَّةِ وَقْفِ الْمَشَاعِ لِأَنَّهَا مُبَادَلَةٌ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الرَّاجِحُ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ (فَلِأَنَّهَا تَمْيِيزٌ) مَعْنًى (وَإِفْرَازُ غَايَةِ الْأَمْرِ أَنَّ الْغَالِبَ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، إلَّا أَنَّ فِي الْوَقْفِ جَعَلْنَا الْغَالِبَ مَعْنَى الْإِفْرَازِ نَظَرًا لِلْوَقْفِ فَلَمْ تَكُنْ بَيْعًا وَتَمْلِيكًا، ثُمَّ إنْ وَقَفَ نَصِيبَهُ مِنْ عَقَارٍ مُشْتَرَكٍ فَهُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْوَاقِفِ) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَوَقْفُ الْمَشَاعِ إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى قولهِ (وَ) لَوْ طَلَبَ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ (بَعْدَ مَوْتِهِ) فَالْقِسْمَةُ (إلَى وَصِيِّهِ، وَإِنْ وَقَفَ نِصْفَ عَقَارٍ خَالِصٍ لَهُ فَـ) لِلْقِسْمَةِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ (يُقَاسِمَهُ الْقَاضِي) بِأَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَيْهِ، وَيَطْلُبَ مِنْهُ الْقِسْمَةَ فَيَأْمُرَ رَجُلًا أَنْ يُقَاسِمَهُ (الثَّانِي أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ الْبَاقِيَ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ يُقَاسِمَ الْمُشْتَرِيَ ثُمَّ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ مِنْهُ) إنْ أَحَبَّ، وَهَذَا (لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَاسِمًا وَمُقَاسَمًا، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْلُ دَرَاهِمَ) بِأَنْ كَانَ أَحَدُ النِّصْفَيْنِ أَجْوَدَ مِنْ الْآخَرِ فَجَعَلَ بِإِزَاءِ الْجَوْدَةِ دَرَاهِمَ، فَإِنْ كَانَ الْآخِذُ لِلدَّرَاهِمِ هُوَ الْوَاقِفُ بِأَنْ كَانَ النِّصْفُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْوَقْفِ هُوَ الْأَحْسَنُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا بَعْضَ الْوَقْفِ وَبَيْعُ الْوَقْفِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْآخِذُ شَرِيكَهُ بِأَنْ كَانَ النَّصِيبُ الْوَقْفُ أَحْسَنَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ مُشْتَرٍ لَا بَائِعٌ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى بَعْضَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَوَقَفَهُ.
فَقولهُ (إنْ أُعْطَى الْوَاقِفُ لَا يَجُوزُ) يَصِحُّ عَلَى بِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ الْوَاقِفِ، وَيَصِحُّ عَلَى بِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْوَاقِفِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهُ أَخَذَ الدَّرَاهِمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْبَيْعِ فِي غَيْرِ الْقِسْمَةِ فِيمَا إذَا كَانَ قَائِمًا عَامِرًا، أَمَّا إذَا تَهَدَّمَ وَلَا حَاصِلَ لَهُ يَعْمُرُ بِهِ فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ إنْ كَانَ حَيًّا، وَإِلَى وَرَثَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا.
وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ نَظَرٌ: يَعْنِي لِأَنَّ الْوَقْفَ بَعْدَمَا خَرَجَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ قول مُحَمَّدٍ بِرُجُوعِهِ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ أَوْلَى مِنْ قولهِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ خُلُوصَهُ لِلَّهِ تَعَالَى أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْقَافِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ بِشَرْطِ الْفَائِدَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ انْتِفَاؤُهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رِيعٌ يُعَادُ بِهِ وَلَا يُوجَدُ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ فَيُعَمِّرُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ حَانُوتٌ احْتَرَقَ فِي السُّوقِ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يُسْتَأْجَرُ أَلْبَتَّةَ، وَحَوْضُ مَحَلَّةٍ خَرِبَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا تُمْكِنُ عِمَارَتُهُ فَهُوَ لِلْوَاقِفِ وَلِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ كَانَ وَاقِفُهُ وَوَرَثَتُهُ لَا تُعْرَفُ فَهُوَ لُقَطَةٌ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
زَادَ فِي فَتَاوَى الْخَاصِّيِّ: إذَا كَانَ كَاللُّقَطَةِ يَتَصَدَّقُونَ بِهِ عَلَى فَقِيرٍ ثُمَّ يَبِيعُهُ الْفَقِيرُ فَيَنْتَفِعُ بِثَمَنِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّمَا يَصِيرُ لِبَيْتِ الْمَالِ إذَا عُرِفَ الْوَاقِفُ وَعُرِفَ مَوْتُهُ وَانْقِرَاضُ عَقِبِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا ضَعُفَتْ الْأَرْضُ عَنْ الِاسْتِغْلَالِ وَيَجِدُ الْقَيِّمُ بِثَمَنِهَا أُخْرَى هِيَ أَكْثَرُ رِيعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ رِيعًا.
وَأَمَّا قول طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ فِيمَا إذَا خَافَ الْمُتَوَلِّي عَلَى الْوَقْفِ مِنْ وَارِثٍ أَوْ سُلْطَانٍ يَغْلِبُ عَلَيْهِ.
قَالَ فِي النَّوَازِلِ: يَبِيعُهَا وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا.
قَالَ: وَكَذَا كُلُّ قَيِّمٍ خَافَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
قَالُوا: فَالْفَتْوَى عَلَى خِلَافِهِ لِأَنَّ الْوَقْفَ بَعْدَ مَا صَحَّ بِشَرَائِطِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ حَتَّى ذَكَرَ فِي شَجَرَةِ جَوْزٍ وَقْفٍ فِي دَارِ وَقْفٍ خَرِبَتْ الدَّارُ لَا تُبَاعُ الشَّجَرَةُ لِعِمَارَةِ الدَّارِ بَلْ تُكْرَى الدَّارُ، وَيُسْتَعَانُ بِنَفْسِ الْجَوْزِ عَلَى الْعِمَارَةِ، ثُمَّ إذَا جَازَ بَيْعُ الْأَشْجَارِ الْمَوْقُوفَةِ لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْقَطْعِ بَلْ بَعْدَهُ، هَكَذَا عَنْ الْفَضْلِيِّ فِي الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَفِي غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ قَالَ: يَجُوزُ قَبْلَ الْقَلْعِ لِأَنَّهَا هِيَ الْغَلَّةُ، وَبِنَاءُ الْوَقْفِ وَالنَّبَاتِ لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْهَدْمِ وَالْقَلْعِ كَالْمُثْمِرَةِ كَذَا قَبْلُ.
وَالْوَجْهُ يَقْتَضِي إذَا تَعَيَّنَ الْبَيْعُ كَوْنُهُ قَبْلَ الْهَدْمِ دَفْعًا لِزِيَادَةِ مُؤْنَةِ الْهَدْمِ، إلَّا أَنْ تَزِيدَ الْقِيمَةُ بِالْهَدْمِ.
وَفِي زِيَادَاتِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَامِدٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَحَصِيرِهِ إذَا اسْتَغْنَوْا عَنْه.

متن الهداية:
قَالَ: (وَالْوَاجِبُ أَنْ يُبْتَدَأَ مِنْ ارْتِفَاعِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ شَرَطَ ذَلِكَ الْوَاقِفُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ) لِأَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ صَرْفُ الْغَلَّةِ مُؤَبَّدًا، وَلَا تَبْقَى دَائِمَةً إلَّا بِالْعِمَارَةِ فَيَثْبُتُ شَرْطُ الْعِمَارَةِ اقْتِضَاءً وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ وَصَارَ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ، فَإِنَّهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِهَا.
ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَا يَظْفَرُ بِهِمْ، وَأَقْرَبُ أَمْوَالِهِمْ هَذِهِ الْغَلَّةُ فَتَجِبُ فِيهَا.
وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَآخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ فَهُوَ فِي مَالِهِ: أَيِّ مَالٍ شَاءَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ.
وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ مُطَالَبَتُهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْعِمَارَةَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى الْمَوْقُوفُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَقَفَهُ، وَإِنْ خَرِبَ يَبْنِي عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّهَا بِصِفَتِهَا صَارَتْ غَلَّتُهَا مَصْرُوفَةً إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ عَلَيْهِ وَالْغَلَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى شَيْءٍ آخَرَ إلَّا بِرِضَاهُ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَعِنْدَ الْآخَرِينَ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْعِمَارَةِ ضَرُورَةُ إبْقَاءِ الْوَقْفِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الزِّيَادَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْوَاجِبُ أَنْ يُبْتَدَأَ مِنْ ارْتِفَاعِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ سَوَاءٌ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ) لِأَنَّ الْغَرَضَ لِكُلِّ وَاقِفٍ وُصُولُ الثَّوَابِ مُؤَبَّدًا وَذَلِكَ (بِصَرْفِ الْغَلَّةِ مُؤَبَّدًا) وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بِلَا عِمَارَةٍ، فَكَانَتْ الْعِمَارَةُ مَشْرُوطَةً اقْتِضَاءً، وَلِهَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ فِي شَيْءٍ مِنْ رَسْمِ الصُّكُوكِ فَاشْتَرَطَ أَنْ يَرْفَعَ الْوَالِي مِنْ غَلَّتِهِ كُلَّ عَامٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَالْبَذْرِ وَأَرْزَاقِ الْوُلَاةِ عَلَيْهَا وَالْعَمَلَةِ وَأُجُورِ الْحُرَّاسِ وَالْحَصَّادِينَ وَالدَّارِسِينَ؛ لِأَنَّ حُصُولَ مَنْفَعَتِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِدَفْعِ هَذِهِ الْمُؤَنِ مِنْ رَأْسِ الْغَلَّةِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَقُّ بِلَا شَرْطٍ عِنْدَنَا لَكِنْ لَا يُؤْمَنُ جَهْلُ بَعْضِ الْقُضَاةِ فَيَذْهَبُ رَأْيُهُ إلَى قِسْمَةِ جَمِيعِ الْغَلَّةِ، فَإِذَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي صَكِّهِ يَقَعُ الْأَمْنُ بِالشَّرْطِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ) أَيْ الِانْتِفَاعُ بِخَرَاجِ الشَّيْءِ كَغَلَّةِ الْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِقِيَامِ ذَلِكَ الشَّيْءِ: أَيْ لِكَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ لَوْ تَلِفَ تَلِفَ مِنْ ضَمَانِ الْمُسْتَغِلِّ.
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ عَنْ مَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مَخْلَدِ بْنِ أَبِي خِفَافٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَنَّهُ قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ».
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الرَّجُلُ يَشْتَرِي الْمَمْلُوكَ فَيَسْتَغِلُّهُ، ثُمَّ يَجِدُ بِهِ عَيْبًا كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَقُضِيَ أَنَّهُ يَرُدُّ الْعَبْدَ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ، وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ فَيَأْخُذُهُ وَتَكُونُ لَهُ الْغَلَّةُ طَيِّبَةً وَهُوَ الْخَرَاجُ، وَإِنَّمَا طَابَتْ لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنًا لِلْعَبْدِ، وَلَوْ مَاتَ مَاتَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ.اهـ.
وَلِهَذَا الْحَدِيثِ نَقَضَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَاءَهُ حِينَ قَضَى بِالْغَلَّةِ لِلْبَائِعِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَفِي مَعْنَاهُ: «الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ».
وَقَدْ جَرَى لَفْظُهُ مَجْرَى الْمَثَلِ وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَضَرَّةٍ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةٍ.
وَقولهُ (وَصَارَ) أَيْ عِمَارَةُ الْوَقْفِ (كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ فَإِنَّهَا) تَكُونُ (عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِهَا).
قولهُ: (ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَا يَظْفَرُ بِهِمْ) لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَلْزَمُوا لِعَدَمِ اجْتِمَاعِهِمْ وَلِعُسْرَتِهِمْ (وَأَقْرَبُ أَمْوَالِهِمْ هَذِهِ الْغَلَّةُ) الْكَائِنَةُ لِلْوَقْفِ (فَتَجِبُ) الْعِمَارَةُ فِيهَا.
قولهُ: (وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ) أَوْ رِجَالٍ (وَآخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ فَهُوَ فِي مَالِهِ أَيِّ مَالٍ شَاءَ فِي حَيَاتِهِ) فَإِذَا مَاتَ فَمِنْ الْغَلَّةِ (وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَلَّةِ) عَيْنًا (لِأَنَّهُ) رَجُلٌ (مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ مُطَالَبَتُهُ) ثُمَّ هُوَ يُعْطِي إنْ شَاءَ مِنْ الْغَلَّةِ وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهَا، ثُمَّ الْعِمَارَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ عَلَيْهِ إنَّمَا هِيَ (بِقَدْرِ مَا يَبْقَى الْمَوْقُوفُ بِهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَقَفَ) عَلَيْهَا (فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ) فَلَا تُصْرَفُ فِي الْعِمَارَةِ (إلَّا بِرِضَاهُ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْضِ) أَيْ لَا يُزَادُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا (وَعِنْدَ آخَرِينَ يَجُوزُ ذَلِكَ) أَيْ الزِّيَادَةُ (وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) لِأَنَّهُ صَرَفَ حَقَّ الْفُقَرَاءِ إلَى غَيْرِ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِمْ، وَلَا تُؤَخَّرُ الْعِمَارَةُ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا وَتُقْطَعُ الْجِهَاتُ الْمَوْقُوفَةُ عَلَيْهَا لَهَا إنْ لَمْ يُخَفْ ضَرَرٌ بَيِّنٌ، فَإِنْ خِيفَ قُدِّمَ.
وَأَمَّا النَّاظِرُ فَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ مِنْ الْوَاقِفِ فَهُوَ كَأَحَدِ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَإِذَا قَطَعُوا لِلْعِمَارَةِ قَطَعَ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ كَالْفَاعِلِ وَالْبَنَّاءِ وَنَحْوَهُمَا فَيَأْخُذُ قَدْرَ أُجْرَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ لَا يَأْخُذْ شَيْئًا.
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ قَاضِي خَانْ: رَجُلٌ وَقَفَ ضَيْعَةً عَلَى مَوَالِيهِ وَمَاتَ فَجَعَلَ الْقَاضِي الْوَقْفَ فِي يَدِ قَيِّمٍ، وَجَعَلَ لَهُ عُشْرَ الْغَلَّاتِ مَثَلًا وَفِي الْوَقْفِ طَاحُونَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ بِالْمُقَاطَعَةِ لَا حَاجَةَ فِيهَا إلَى الْقَيِّمِ، وَأَصْحَابُ هَذِهِ الطَّاحُونَةِ يَقْسِمُونَ غَلَّتَهَا لَا يَجِبُ لِلْقَيِّمِ فِيهَا ذَلِكَ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ الْقَيِّمَ لَا يَأْخُذُ مَا يَأْخُذُهُ إلَّا بِطَرِيقِ الْأَجْرِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِلَا عَمَلٍ.اهـ.
فَهَذَا عِنْدَنَا فِيمَنْ لَمْ يَشْرِطْ لَهُ الْوَاقِفُ شَيْئًا؛ أَمَّا إذَا شَرَطَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ.

متن الهداية:
قَالَ: (فَإِنْ وَقَفَ دَارًا عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ سُكْنَى) لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ عَلَى مَا مَرَّ فَصَارَ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ (فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ فَقِيرًا آجَرَهَا الْحَاكِمُ وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا، وَإِذَا عَمَّرَهَا رَدَّهَا إلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ حَقِّ الْوَاقِفِ وَحَقِّ صَاحِبِ السُّكْنَى، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَمِّرْهَا تَفُوتُ السُّكْنَى أَصْلًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْعِمَارَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ مَالِهِ فَأَشْبَهَ امْتِنَاعَ صَاحِبِ الْبَذْرِ فِي الْمُزَارَعَةِ فَلَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ رِضًا مِنْهُ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ، وَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ مَنْ لَهُ السُّكْنَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ وَقَفَ دَارًا عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ) أَوْ غَيْرِ وَلَدِهِ (فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى)؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ وَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ كَانَ فَقِيرًا أَجَّرَهَا الْحَاكِمُ (وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا) ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ حَقِّ الْوَاقِفِ وَحَقِّ صَاحِبِ السُّكْنَى (لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَمِّرْهَا تَفُوتُ السُّكْنَى أَصْلًا، وَالْأَوَّلُ) وَهُوَ الْعِمَارَةُ (أَوْلَى) مِنْ الثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ عِمَارَتِهَا الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقولهِ لَوْ لَمْ يُعَمِّرْهَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ إحْدَاهُمَا (وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْعِمَارَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ) إلْزَامِ الضَّرَرِ (بِإِتْلَافِ مَالِهِ فَأَشْبَهَ امْتِنَاعَ صَاحِبِ الْبَذْرِ) فِيهِمَا إذَا عَقَدَ عَقْدَ (الْمُزَارَعَةِ) وَبَيَّنَا مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ فَامْتَنَعَ مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ عَنْ الْعَمَلِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ (ثُمَّ لَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ رِضًا مِنْهُ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ) يَعْنِي دَلَالَةَ الِامْتِنَاعِ عَلَى الرِّضَا بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مُتَرَدِّدٌ فِيهَا لِجَوَازِ كَوْنِ امْتِنَاعِهِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعِمَارَةِ أَوْ لِرَجَائِهِ اصْطِلَاحَ الْقَاضِي كَمَا يَجُوزُ كَوْنُهُ لِرِضَاهُ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا قَالَ أَجَّرَهَا الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّهُ (لَا تَصِحُّ إجَارَةُ مَنْ لَهُ السُّكْنَى) وَعَلَّلَهُ بِقولهِ (لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ) وَفِي تَقْرِيرِهِ قولانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلْمَنْفَعَةِ بَلْ أُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ.
فَإِنَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ السُّكْنَى أَنْ يُعِيرَ الدَّارَ، وَالْإِعَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِلَا عِوَضٍ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي وَقْفِ الْخَصَّافِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلْعَيْنِ وَالْإِجَارَةُ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا بَيْعُ الْمَنَافِعِ وَالْمَنَافِعُ مَعْدُومَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِلْكُهَا لِيَمْلِكَهَا فَأُقِيمَتْ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ لِيَرُدَّ عَلَيْهَا الْعَقْدَ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً، وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ إجَارَةُ الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَأَنْ لَا يَصِحَّ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ السُّكْنَى الْإِعَارَةُ لَكِنَّهُ يَصِحُّ كَمَا ذَكَرْنَا؛ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ؛ لِأَنَّهُ تَمَلُّكُ الْمَنَافِعِ بِلَا بَدَلٍ فَلَمْ يَمْلِكَ تَمْلِيكَهَا بِبَدَلٍ وَهُوَ الْإِجَارَةُ، وَإِلَّا لَمَلَكَ أَكْثَرَ مِمَّا مَلَكَ بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ يُفِيدُ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ السُّكْنَى وَغَيْرِهِ، حَتَّى أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الدَّارُ الْمُسْتَحِقَّ لِلْغَلَّةِ أَيْضًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلْعَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْعَيْنِ مَقَامَ مَنَافِعِهَا لِيَرُدَّ عَلَيْهِ عَقْدَ الْإِجَارَةِ بَلْ مَا مَلَكَهُ مِنْ الْمَنَافِعِ بِلَا بَدَلٍ.
وَنَصَّ الْأُسْرُوشَنِيُّ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنْقول أَنَّ إجَارَةَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ الْمُتَوَلِّي أَوْ الْقَاضِي.
وَنُقِلَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْوَقْفُ لَا يَسْتَرِمُّ تَجُوزُ إجَارَتُهُ وَهَذَا فِي الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ.
وَأَمَّا الْأَرَاضِي فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ شَرَطَ تَقْدِيمَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَسَائِرِ الْمُؤَنِ فَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَاجِرَ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ يَجُوزَ وَيَكُونَ الْخَرَاجُ وَالْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ، هَذَا وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ السُّكْنَى بِالْعِمَارَةِ وَلَمْ يَجِدْ الْقَاضِي مَنْ يَسْتَأْجِرُهَا لَمْ أَرَ حُكْمَ هَذِهِ فِي الْمَنْقول مِنْ الْمَذْهَبِ، وَالْحَالُ فِيهَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ تَصِيرَ نَقْضًا عَلَى الْأَرْضِ كَرَمَادٍ تَسْفُوهُ الرِّيَاحُ، وَخَطَرَ لِي أَنَّهُ يُخَيِّرُهُ الْقَاضِي بَيْنَ أَنْ يُعَمِّرَهَا فَيَسْتَوْفِيَ مَنْفَعَتَهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ) صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى عِمَارَتِهِ فَيَصْرِفَهُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعِمَارَةِ لِيَبْقَى عَلَى التَّأْبِيدِ فَيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْوَاقِفِ.
فَإِنْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ صَرَفَهَا فِيهَا، وَإِلَّا أَمْسَكَهَا حَتَّى لَا يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوَانَ الْحَاجَةِ فَيَبْطُلُ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إعَادَةُ عَيْنِهِ إلَى مَوْضِعِهِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ إلَى الْمَرَمَّةِ صَرْفًا لِلْبَدَلِ إلَى مَصْرِفِ الْمُبْدَلِ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْسِمَهُ) يَعْنِي النَّقْضَ (بَيْنَ مُسْتَحَقِّي الْوَقْفِ) لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا حَقَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِيهِ: وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي الْمَنَافِعِ، وَالْعَيْنُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصْرِفُ إلَيْهِمْ غَيْرَ حَقِّهِمْ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ) وَهُوَ بِالْجَرِّ كَالْخَشَبِ وَالْقَصَبِ وَقَدْ يُضَمُّ عَطْفًا عَلَى مَا صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَيْهِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ بِالِانْهِدَامِ تَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ إلَى عِمَارَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ فَلَا مَعْنَى لِلشَّرْطِ فِي قولهِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ إنْ كَانَ التَّهَيُّؤُ لِلْعِمَارَةِ ثَابِتًا فِي الْحَالِ صَرَفَهُ إلَيْهَا، وَإِلَّا حَفِظَهُ حَتَّى يَتَهَيَّأَ ذَلِكَ وَتَتَحَقَّقَ الْحَاجَةُ، فَإِنَّ الْمُنْهَدِمَ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا جِدًّا لَا يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْوَقْفِ وَلَا يَقْرَبُهُ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَيُؤَخَّرُ حَتَّى تَحْسُنَ أَوْ تَجِبَ الْعِمَارَةُ؛ وَإِنْ تَعَذَّرَتْ إعَارَتُهُ بِأَنْ خَرَجَ عَنْ الصَّلَاحِيَةِ لِذَلِكَ لِضَعْفِهِ وَنَحْوِهِ بَاعَهُ وَصَرَفَ ثَمَنَهُ فِي ذَلِكَ إقَامَةً لِلْبَدَلِ مَقَامَ الْمُبْدَلِ، وَلَا يَقْسِمُهُ بَيْنَ مُسْتَحِقِّي الْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَيْنِ الْوَقْفِ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ، لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّهُمْ فِي الْغَلَّةِ فَقَطْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِهِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الِانْتِفَاعُ بِهِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَقْفُ الْوَاقِفِ، أَمَّا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُتَوَلِّي مِنْ مُسْتَغَلَّاتِ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِلَا هَذَا الشَّرْطِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي صَيْرُورَتِهِ وَقْفًا خِلَافًا، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَقْفًا فَلِلْقَيِّمِ أَنْ يَبِيعَهُ مَتَى شَاءَ لِمَصْلَحَةٍ عَرَضَتْ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ أَوْ جَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ذَكَرَ فَصْلَيْنِ شَرْطَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ وَجَعْلَ الْوِلَايَةِ إلَيْهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ قول مُحَمَّدٍ وَهُوَ قول هِلَالٍ الرَّازِيّ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقِيلَ إنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ وَالْإِفْرَازِ.
وَقِيلَ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا شَرَطَ الْبَعْضَ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ لِلْفُقَرَاءِ، وَفِيمَا إذَا شَرَطَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ لِلْفُقَرَاءِ سَوَاءٌ؛ وَلَوْ وَقَفَ وَشَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ مَا دَامُوا أَحْيَاءً، فَإِذَا مَاتُوا فَهُوَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَقَدْ قِيلَ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ كَاشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ.
وَجْهُ قول مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، فَاشْتِرَاطُهُ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ يُبْطِلُهُ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَصَارَ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفِّذَةِ، وَشَرْطَ بَعْضِ بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ» وَالْمُرَادُ مِنْهَا صَدَقَتُهُ الْمَوْقُوفَةُ، وَلَا يَحِلُّ الْأَكْلُ مِنْهَا إلَّا بِالشَّرْطِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ إزَالَةُ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَإِذَا شَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، فَقَدْ جَعَلَ مَا صَارَ مَمْلُوكًا لِلَّهِ تَعَالَى لِنَفْسِهِ لَا أَنَّهُ يَجْعَلُ مِلْكَ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا جَائِزٌ، كَمَا إذَا بَنَى خَانًا أَوْ سِقَايَةً أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً، وَشَرَطَ أَنْ يَنْزِلَهُ أَوْ يَشْرَبَ مِنْهُ أَوْ يُدْفَنَ فِيهِ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْقُرْبَةُ وَفِي الصَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ».
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ أَوْ جَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) فَهَذَانِ فَصْلَانِ ذَكَرَهُمَا الْقُدُورِيُّ (شَرَطَ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ وَجَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) وَهُوَ قول أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالزُّهْرِيِّ.
وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ابْنُ سُرَيْجٍ (وَلَا يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ قول مُحَمَّدٍ وَهِلَالٍ) الرَّأْيِيِّ وَهُوَ هِلَالُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُسْلِمٍ الْبَصْرِيُّ، وَإِنَّمَا نُسِبَ إلَى الرَّأْيِ: أَيْ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَرَأْيِهِمْ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ الْبَصْرِيِّ، وَيُوسُفُ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقِيلَ إنَّ هِلَالًا أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ.
وَوَقَعَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهِمَا الرَّازِيّ.
وَفِي الْمُغْرِبِ هُوَ تَحْرِيفٌ، بَلْ هُوَ الرَّأْيِيُّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ لِأَنَّهُ مِنْ الْبَصْرَةِ لَا مِنْ الرَّيِّ.
وَالرَّازِيُّ نِسْبَةً إلَى الرَّيِّ، وَهَكَذَا صَحَّحَ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، وَبِقول مُحَمَّدٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ، وَالْخِلَافُ فِي شَرْطِ كُلِّ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ وَبَعْدَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ بَعْضِهَا وَبَعْدَهُ لِلْفُقَرَاءِ.
ثُمَّ (قِيلَ إنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ) أَيْ قَبْضِ الْمُتَوَلِّي، فَلَمَّا شَرَطَهُ مُحَمَّدٌ مَنَعَ اشْتِرَاطَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّهُ فِيهِ، وَمَا شَرَطَ الْقَبْضَ إلَّا لِيَنْقَطِعَ حَقُّهُ، وَلَمَّا لَمْ يَشْرِطْهُ أَبُو يُوسُفَ لَمْ يَمْنَعْهُ (وَقِيلَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ) غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ وَهُوَ أَوْجَهُ، ثُمَّ وَصَلَ الْمُصَنِّفُ بِهَذِهِ الْخِلَافِيَّةِ مَا إذَا شَرَطَ الْغَلَّةَ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ مَا دَامُوا أَحْيَاءً، فَإِذَا مَاتُوا كَانَ لِلْفُقَرَاءِ بِنَاءً عَلَى جَعْلِ الْخِلَافِ الْمَعْلُومِ جَارِيًا فِيهَا عَلَى مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَقِيلَ بَلْ صِحَّةُ شَرْطِ الْغَلَّةِ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ وَالتَّتِمَّةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ، فَإِنَّ الْكُلَّ جَعَلُوا الصِّحَّةَ بِالِاتِّفَاقِ.
وَفَرَّقَ فِي الْمَبْسُوطِ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ شَرْطِ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ وَلِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ حَيْثُ يَجُوزُ مَعَ أَنَّ شَرْطَهُ لَهُنَّ وَلِمُدَبَّرِيهِ كَشَرْطٍ لِنَفْسِهِ بِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ ثَبَتَتْ بِمَوْتِهِ فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ كَالْوَقْفِ عَلَى الْأَجَانِبِ، وَيَكُونُ ثُبُوتُهُ لَهُمْ حَالَةَ حَيَاتِهِ تَبَعًا لِمَا بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ إذَا قَالَ فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ وَفَاتِي يَلْزَمُ، أَمَّا لَوْ وَقَفَ عَلَى عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتِقُونَ بِمَوْتِهِ فَلَا تَبَعِيَّةَ، وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَشَرْطِهِ لِنَفْسِهِ (وَجْهُ قول مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ) لِلْغَلَّةِ أَوْ لِلسُّكْنَى (فَاشْتِرَاطُ الْبَعْضِ أَوْ الْكُلِّ لِنَفْسِهِ يُبْطِلُهُ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَصَارَ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ) بِأَنْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ بِمَالٍ وَسَلَّمَ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ لِي لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، إذْ لَمْ يَكُنْ مُمَلَّكًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إلَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْقَدْرِ، فَكَذَا فِي الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ (وَكَشَرْطِ بَعْضِ بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ) بَيْتًا (وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ» وَالْمُرَادُ صَدَقَتُهُ الْمَوْقُوفَةُ، وَلَا يَحِلُّ الْأَكْلُ مِنْهَا إلَّا بِالشَّرْطِ) فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا لَمْ يَشْرِطْ لِنَفْسِهِ الْأَكْلَ مِنْهَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا شَرَطَهُ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا أَنَّ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيه: «قَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ حُجْرًا الْمَدْرِيَّ أَخْبَرَنِي قَالَ: إنَّ فِي صَدَقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْهَا أَهْلُهَا بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ».
(وَلِأَنَّ الْوَقْفَ إزَالَةُ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا شَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ فَقَدْ جَعَلَ مَا صَارَ مَمْلُوكًا لِلَّهِ لِنَفْسِهِ لَا أَنَّهُ جَعَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ) كَذَا قَرَّرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَعَلَى مَا سَلَفَ لَنَا فِي اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقَرِّرَ هَكَذَا الْمَوْقُوفُ إزَالَةَ الْمِلْكِ الْكَائِنِ بِالْعَيْنِ وَإِسْقَاطَهُ لَا إلَى مَالِكٍ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ يُعْتَبَرُ فِيهِ شَرْطُهُ الْغَيْرُ الْمُنَافِي لِلْقُرْبَةِ وَالشَّرْعِ، وَشَرْطُ النَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ (كَمَا إذَا بَنَى خَانًا وَشَرَطَ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِ أَوْ سِقَايَةً وَشَرَطَ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهَا أَوْ مَقْبَرَةً وَشَرَطَ أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ») رُوِيَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ يَبْلُغُ بِهَا الشُّهْرَةَ، فَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: «مَا مِنْ كَسْبِ الرَّجُلِ كَسْبٌ أَطْيَبُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ بَقِيَّةَ عَنْ بُجَيْرٍ بِلَفْظِ: «مَا أَطْعَمْت نَفْسَك فَهُوَ لَك صَدَقَةٌ» الْحَدِيثَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «أَيُّمَا رَجُلٍ كَسَبَ مَالًا حَلَالًا فَأَطْعَمَهُ نَفْسَهُ أَوْ كَسَاهَا فَمَنْ دُونَهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ لَهُ زَكَاةً» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ إلَّا أَنَّهُ قَال: «فَإِنَّهُ لَهُ زَكَاةٌ» وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ أَيْضًا وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا وَقَى بِهِ عِرْضَهُ صَدَقَةٌ» الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ فَقُلْت لِمُحَمَّدٍ بْنِ الْمُنْكَدِرِ: مَا مَعْنَى وَقَى بِهِ عِرْضَهُ قَالَ: أَنْ يُعْطِيَ الشَّاعِرَ وَذَا اللِّسَانِ الْمُتَّقَى.
وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: «مَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِرَجُلٍ ابْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِك» الْحَدِيثَ، فَقَدْ تَرَجَّحَ قول أَبِي يُوسُفَ.
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَالْفَتْوَى عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ، وَنَحْنُ أَيْضًا نُفْتِي بِقولهِ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْوَقْفِ، وَاخْتَارَهُ مَشَايِخُ بَلْخَ، وَكَذَا ظَاهِرُ الْهِدَايَةِ حَيْثُ أَخَّرَ وَجْهَهُ وَلَمْ يَدْفَعْهُ.
وَمِنْ صُوَرِ الِاشْتِرَاطِ لِنَفْسِهِ مَا لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ غَلَّتِهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ إذَا حَدَثَ عَلَيَّ الْمَوْتُ وَعَلَيَّ دَيْنٌ يُبْدَأُ مِنْ غَلَّةِ هَذَا الْوَقْفِ بِقَضَاءِ مَا عَلَيَّ فَمَا فَضَلَ فَعَلَى سَبِيلِهِ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ.
وَفِي وَقْفِ الْخَصَّافِ إذَا شَرَطَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَحَشَمِهِ وَعِيَالِهِ مِنْ غَلَّةِ هَذَا الْوَقْفِ فَجَاءَتْ غَلَّتُهُ فَبَاعَهَا وَقَبَضَ ثَمَنَهَا، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُنْفِقَ ذَلِكَ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِأَهْلِ الْوَقْفِ؟ قَالَ: يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ ذَلِكَ وَكَانَ لَهُ فَقَدْ عُرِفَ أَنَّ شَرْطَ بَعْضِ الْغَلَّةِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ بَعْضًا مُعَيَّنًا كَالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إذَا حَدَثَ عَلَى فُلَانٍ الْمَوْتُ: يَعْنِي الْوَاقِفَ نَفْسَهُ أُخْرِجَ مِنْ غَلَّةِ هَذَا الْوَقْفِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ عَشْرَةِ أَسْهُمٍ مَثَلًا سَهْمٌ يُجْعَلُ فِي الْحَجِّ عَنْهُ أَوْ فِي كَفَّارَاتِ أَيْمَانِهِ، وَفِي كَذَا وَكَذَا وَسَمَّى أَشْيَاءَ، أَوْ قَالَ أَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ الصَّدَقَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لِتُصْرَفَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وَيُصْرَفَ الْبَاقِي فِي كَذَا وَكَذَا عَلَى مَا سَبَّلَهُ.

متن الهداية:
وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ أَرْضًا أُخْرَى إذَا شَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهَا أَرْضًا أُخْرَى) تَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهُ (فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) وَهِلَالٍ وَالْخَصَّافِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا وَأَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا أُخْرَى مَكَانًا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَصِحُّ الْوَقْفُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ اسْتِبْدَالِهِ مَرَّةً أَنْ يَسْتَبْدِلَ ثَانِيًا لِانْتِهَاءِ الشَّرْطِ بِمَرَّةٍ، إلَّا أَنْ يَذْكُرَ عِبَارَةً تُفِيدُ لَهُ ذَلِكَ دَائِمًا، وَكَذَا لَيْسَ لِلْقَيِّمِ الِاسْتِبْدَالُ إلَّا أَنْ يَنُصَّ لَهُ بِذَلِكَ، وَعَلَى وِزَانِ هَذَا لَوْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ الْمَعَالِيمِ إذَا شَاءَ وَيَزِيدَ وَيُخْرِجَ مَنْ شَاءَ وَيَسْتَبْدِلَ بِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِقَيِّمِهِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ لَهُ، وَإِذَا أَدْخَلَ وَأَخْرَجَ مَرَّةً لَيْسَ لَهُ ثَانِيًا إلَّا بِشَرْطِهِ، وَلَوْ شَرَطَهُ لِلْقَيِّمِ وَلَمْ يَشْرِطْهُ لِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ إفَادَتَهُ الْوِلَايَةَ لِغَيْرِهِ بِذَلِكَ فَرْعُ كَوْنِهِ يَمْلِكُهَا، وَلَوْ قَيَّدَ شَرْطَ الِاسْتِبْدَالِ لِلْقَيِّمِ بِحَيَاةِ الْوَاقِفِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: قول هِلَالٍ وَأَبِي يُوسُفَ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يُبْطِلُ الْوَقْفَ، لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ، فَإِنَّ أَرْضَ الْوَقْفِ إذَا غَصَبَهَا غَاصِبٌ وَأَجْرَى عَلَيْهَا الْمَاءَ حَتَّى صَارَتْ بَحْرًا لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَيَشْتَرِي بِهَا أَرْضًا أُخْرَى فَتَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهَا، وَكَذَا أَرْضُ الْوَقْفِ إذَا قَلَّ نُزُلُهَا بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ الزِّرَاعَةَ وَلَا تَفْضُلُ غَلَّتُهَا مِنْ مُؤْنَتِهَا وَيَكُونُ صَلَاحُ الْأَرْضِ فِي الِاسْتِبْدَالِ بِأَرْضٍ أُخْرَى، وَفِي نَحْوِ هَذَا عَنْ الْأَنْصَارِيِّ صِحَّةُ الشَّرْطِ لَكِنْ لَا يَبِيعُهَا إلَّا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ وَلَا مَنْفَعَةَ فِي الْوَقْفِ أَنْ يَأْذَنَ فِي بَيْعِهَا إذَا رَآهُ أَنْظَرَ لِأَهْلِ الْوَقْفِ، وَإِذَا كَانَ حَاصِلُهُ إثْبَاتَ وَقْفٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فَاسِدًا هُوَ اشْتِرَاطُ عَدَمِ حُكْمِهِ وَهُوَ التَّأْبِيدُ بَلْ هُوَ تَأْبِيدٌ مَعْنًى.
وَلَا يُقَالُ: حُكْمُ الْوَقْفِ إذَا صَحَّ الْخُرُوجُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ.
لِأَنَّا نَقول: حُكْمُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَنْفُذُ فِيهِ شَرْطُهُ الَّذِي شَرَطَ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ إذَا لَمْ يُخَالِفْ أَمْرًا شَرْعِيًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَرْطَ الِاسْتِبْدَالِ لَا يُخَالِفُهُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ، وَكَوْنُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ ذَكَرَ مَسْأَلَةً ثُمَّ قَالَ: وَلِهَذَا تَبَيَّنَ خَطَأُ مَنْ يُجَوِّزُ اسْتِبْدَالَ الْوَقْفِ، وَكَذَا مَا نُقِلَ عَنْ ظَهِيرِ الدِّينِ رُجُوعُهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُفْتِي بِهِ لَا يُوجِبُ اتِّبَاعَهُ مَعَ قِيَامِ وَجْهٍ غَيْرِهِ، وَلَوْ أُرِيدَ تَجْوِيزُ الِاسْتِبْدَالِ بِغَيْرِ شَرْطِ الِاسْتِبْدَالِ فِيمَا إذَا كَانَ أَحْسَنَ لِلْوَقْفِ كَانَ حَسَنًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ إمَّا عَنْ شَرْطِهِ الِاسْتِبْدَالَ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَوْ لَا عَنْ شَرْطٍ، فَإِنْ كَانَ لِخُرُوجِ الْوَقْفِ عَنْ انْتِفَاعِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ كَالصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لِقَاضِي خَانْ، وَإِنْ كَانَ لَا لِذَلِكَ بَلْ اتَّفَقَ أَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يُؤْخَذَ بِثَمَنِ الْوَقْفِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ مَعَ كَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إبْقَاءُ الْوَقْفِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ دُونَ زِيَادَةٍ أُخْرَى، وَلِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِتَجْوِيزِهِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ فِي الْأَوَّلِ الشَّرْطُ وَفِي الثَّانِي الضَّرُورَةُ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي هَذَا إذْ لَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ فِيهِ بَلْ تَبْقِيَتُهُ كَمَا كَانَ، وَلَعَلَّ مَحْمَلَ مَا نُقِلَ عَنْ السِّيَرِ الْكَبِيرِ مِنْ قولهِ اسْتِبْدَالُ الْوَقْفِ بَاطِلٌ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هَذَا الِاسْتِبْدَالُ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِالشَّرْطِ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ الْمَعْرُوفُ لَا مُجَرَّدُ رِوَايَةٍ، وَالِاسْتِبْدَالُ الثَّانِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ كَمَا قُلْنَا.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: أَجْمَعُوا أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ لِنَفْسِهِ يَصِحُّ الشَّرْطُ وَالْوَقْفُ وَيَمْلِكُ الِاسْتِبْدَالَ.
أَمَّا بِلَا شَرْطٍ أَشَارَ فِي السِّيَرِ إلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْقَاضِي، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ كَوْنُ الِاسْتِبْدَالِ لِنَفْسِهِ إذَا شَرَطَهُ لَهُ.
وَفِي الْقَاضِي فِيمَا لَا شَرْطَ فِيهِ لَا فِي أَصْلِ الِاسْتِبْدَالِ، وَإِلَّا فَهُوَ قَدْ نَقَلَ الْخِلَافَ.
وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَحْمَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْأَنْصَارِيِّ مَا إذَا لَمْ يَشْرِطْهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ إذَا اشْتَرَى الْبَدَلَ لِلْوَقْفِ صَارَ وَقْفًا، وَلَا يَتَوَقَّفُ وَقْفِيَّتُهُ عَلَى أَنْ يَقِفَهُ بِلَفْظٍ يَخُصَّهُ، وَلَيْسَ لِلْقَيِّمِ أَنْ يُوصِيَ بِالِاسْتِبْدَالِ لِمَنْ يُوصَى إلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِهِ بِالْوَقْفِ.
وَمِنْ فُرُوعِ الِاسْتِبْدَالِ لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ أَوْ عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا وَأَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا عَبْدًا نَصَّ هِلَالٌ عَلَى فَسَادِ الْوَقْفِ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَى أَنْ أُبْطِلَهَا، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قولهِ عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا وَأَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا أَرْضًا جَازَ اسْتِحْسَانًا، وَإِذَا قَالَ عَلَى أَنْ أَسْتَبْدِلَ أَرْضًا أُخْرَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْبَدَلَ دَارًا، وَكَذَا عَلَى الْعَكْسِ؛ وَلَوْ قَالَ بِأَرْضٍ مِنْ الْبَصْرَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ مِنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي جَوْدَةِ الْأَرْضِ، وَيَنْبَغِي إنْ كَانَتْ أَحْسَنَ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ؛ وَلَوْ شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا اسْتَبْدَلَ مَا شَاءَ مِنْ الْعَقَارِ خَاصَّةً، وَلَوْ بَاعَ الْوَقْفَ بِغَبَنٍ فَاحِشٍ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ وَلَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ دَيْنٌ فِي تَرِكَتِهِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ، أَمَّا لَوْ ضَاعَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ اشْتَرَى بِالثَّمَنِ عَرْضًا مِمَّا لَا يَكُونُ وَقْفًا فَهُوَ لَهُ وَالدَّيْنُ عَلَيْهِ، وَلَوْ وَهَبَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي صَحَّتْ الْهِبَةُ وَيَضْمَنُهُ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنَعَهُ أَبُو يُوسُفَ.
أَمَّا لَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ وَهَبَهُ فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ اتِّفَاقًا، وَلَوْ بَاعَهُ بِعَرَضٍ فَفِي قِيَاسِ قول أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَهِلَالٌ: لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ إلَّا بِالنَّصِّ أَوْ بِأَرْضٍ تَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهَا؛ وَإِذَا بَاعَ الْوَقْفَ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ بِمَا هُوَ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا ثَانِيًا، وَإِنْ عَادَتْ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَقْفًا فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى غَيْرَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ عَمَّمَ لِنَفْسِهِ الِاسْتِبْدَالَ، وَلَوْ رُدَّتْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَعْدَ الْقَبْضِ أَوْ قَبْلَ الْقَبْضِ بِقَضَاءٍ عَادَتْ وَقْفًا؛ وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِالْأُخْرَى مَا شَاءَ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى فِي الْقِيَاسِ تَبْقَى الثَّانِيَةُ وَقْفًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ كَانَتْ وَقْفًا بَدَلًا عَنْ الْأُولَى وَبِالِاسْتِحْقَاقِ انْتَقَضَتْ تِلْكَ الْمُبَادَلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا تَبْقَى الثَّانِيَةُ وَقْفًا، وَلَوْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَسْتَبْدِلَ فَوَكَّلَ بِهِ جَازَ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَصِيِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْوَكَالَةِ وَهُوَ حَيٌّ لَوْ تَمَكَّنَ خَلَلُهُ أَمْكَنَهُ الِاسْتِبْدَالُ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ، وَلَوْ شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ لِنَفْسِهِ مَعَ آخَرَ عَلَى أَنْ يَسْتَبْدِلَا مَعًا فَتَفَرَّدَ بِذَلِكَ الرَّجُلُ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ تَفَرَّدَ بِهِ الْوَاقِفُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي شَرَطَهُ لِذَلِكَ، وَمَا شَرَطَ لِغَيْرِهِ فَهُوَ مَشْرُوطٌ لَهُ، كَمَا لَوْ نَصَّبَ قَاضِيَا بَلَدَيْنِ كُلٌّ قَيِّمًا كَانَ لِكُلٍّ أَنْ يَتَصَرَّفَ وَحْدَهُ، وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الْقَاضِيَيْنِ أَرَادَ أَنْ يَعْزِلَ الَّذِي أَقَامَهُ الْقَاضِي الْآخَرُ قَالَ: إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ كَانَ لَهُ عَزْلُهُ وَإِلَّا فَلَا.

متن الهداية:
وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فِي الْوَقْفِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ بَاطِلٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ شَرَطَ) أَيْ الْوَاقِفُ (الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) بِأَنْ قَالَ وَقَفْت دَارِي هَذِهِ عَلَى كَذَا عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْوَقْفُ بَاطِلٌ) وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَهِلَالٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا) يُرِيدُ الْأَصْلَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ: أَعْنِي شَرْطَ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمَّا شَرَطَ تَمَامَ الْقَبْضِ لِيَنْقَطِعَ حَقُّ الْوَاقِفِ فَلَا شَكَّ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَفُوتُ مَعَهُ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ تَمَامُ الْقَبْضِ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلَمَّا لَمْ يَشْرِطْ تَمَامَ قَبْضِ مُتَوَلٍّ انْبَنَى عَلَيْهِ جَوَازُ شَرْطِ الْخِيَارِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَهُوَ قول يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ كَالْإِعْتَاقِ فِي أَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى مَالِكٍ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ وَبَطَلَ الشَّرْطُ، فَكَذَا يَجِبُ هَذَا وَلِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي الْمَسْجِدِ يَبْطُلُ وَيَتِمُّ وَقْفُ الْمَسْجِدِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ: عَلَى قول مُحَمَّدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْوَقْفُ وَيَبْطُلَ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الزَّوَالِ، وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ يَقول بِتَمَامِ الرِّضَا وَالْقَبْضِ يَتِمُّ الْوَقْفُ، وَمَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ لَا يَتِمُّ الرِّضَا وَلَا الْقَبْضُ فَكَانَ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْوَقْفِ، فَلَا يَتِمُّ مَعَهُ، بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ شَرْطًا فِيهِ عِنْدَهُ بَلْ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فِيهِ بِجَمَاعَةٍ، وَكَذَا فِي الْإِعْتَاقِ فَإِنَّ الْقَبْضَ فِيهِ لَيْسَ شَرْطًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ تَمَّ لَهُ شَرْطُ التَّسْلِيمِ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ تَمَّ لَهُ هَذَا وَقَدَّمْنَا مَا فِيهِ، وَتَقْيِيدُ الْخِيَارِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْسَ قَيْدًا بَلْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا؛ حَتَّى لَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةً بِأَنْ وَقَفَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ لَا يَجُوزُ الِاتِّفَاقُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ بَيَّنَ لِلْخِيَارِ وَقْتًا جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ لَهُ فَالْوَقْفُ وَالشَّرْطُ بَاطِلَانِ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَلَوْ أَبْطَلَ الْخِيَارَ قَبْلَ الثَّلَاثِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَبَّدًا وَالْخِيَارُ يَمْنَعُ التَّأْبِيدَ، وَكَانَ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْخِيَارَ فِيهِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَهُ بَلْ يُفْسِدُهُ إذَا شَرَطَهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِامْتِنَاعِ لُزُومِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، فَلَمْ يَكُنْ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ قَبْلَ الثَّلَاثِ جَازَ، ذَكَرَهُ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
وَلَا يَبْطُلُ الْوَقْفُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَفَ أَرْضًا عَلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ دَرَاهِمَ جَازَ الْوَقْفُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَيْضًا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ وَقَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ مَوْقُوفٌ فَكَذَا الْوَقْفُ، وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا فَوَقَفَهَا، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَلَا يَكُونُ لِلْوَقْفِ بَلْ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ.
فُرُوعٌ:
اشْتَرَى أَرْضًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَوَقَفَهَا ثُمَّ أَسْقَطَ الْخِيَارَ صَحَّ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَوَقَفَهَا الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَسْقَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لَا تَكُونُ وَقْفًا، وَلَوْ وَقَفَهَا الْبَائِعُ صَحَّ، وَلَوْ وَقَفَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَرْضَ قَبْلَ قَبْضِهَا، ثُمَّ قَبَضَهَا لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَهَا الْمُوصَى لَهُ بِهَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي، وَكَذَا لَوْ وَقَفَهَا فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ قَبْلَ قَبْضِهَا.

متن الهداية:
وَأَمَّا فَصْلُ الْوِلَايَةِ فَقَدْ نَصَّ فِيهِ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قول هِلَالٍ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
وَذَكَرَ هِلَالٌ فِي وَقْفِهِ وَقَالَ أَقْوَامٌ: إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ.
قَالَ مَشَايِخُنَا: الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قول مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْقَيِّمِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَإِذَا سَلَّمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةٌ فِيهِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمُتَوَلِّي إنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ بِشَرْطِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْوِلَايَةُ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى هَذَا الْوَقْفِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِوِلَايَتِهِ، كَمَنْ اتَّخَذَ مَسْجِدًا يَكُونُ أَوْلَى بِعِمَارَتِهِ وَنَصْبِ الْمُؤَذِّنِ فِيهِ، وَكَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ.
وَلَوْ أَنَّ الْوَاقِفَ شَرَطَ وِلَايَتَهُ لِنَفْسِهِ وَكَانَ الْوَاقِفُ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَى الْوَقْفِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَنْزِعَهَا مِنْ يَدِهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ، كَمَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْوَصِيَّ نَظَرًا لِلصِّغَارِ، وَكَذَا إذَا شَرَطَ أَنْ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ وَلَا لِقَاضٍ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ وَيُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَبَطَلَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَأَمَّا فَصْلُ الْوِلَايَةِ فَقَدْ نَصَّ فِيهِ) أَيْ الْقُدُورِيُّ (عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ) حَيْثُ قَالَ: أَوْ جَعَلَ الْوِلَايَةَ بِهِ إلَيْهِ جَازَ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ (وَهُوَ قول هِلَالٍ أَيْضًا) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَذَكَرَ هِلَالٌ فِي وَقْفِهِ) فَقَالَ: (وَقَالَ أَقْوَامٌ: إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتْ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ. قَالَ مَشَايِخُنَا: الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ قول مُحَمَّدٍ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْقَيِّمِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ فَإِذَا سَلَّمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةٌ فِيهِ) فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَصْرِيحُ مُحَمَّدٍ بِهِ، وَلِذَا أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ قولهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّ مُقْتَضَى اشْتِرَاطِ مُحَمَّدٍ التَّسْلِيمَ إلَى الْقَيِّمِ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِلْوَاقِفِ وِلَايَةٌ وَإِنْ شَرَطَهَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي هَذَا الشَّرْطَ.
أُجِيبُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ سَلَّمَهَا إلَى الْمُتَوَلِّي فَإِنَّ الْوِلَايَةَ تَكُونُ لَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً وَأَخْرَجَهَا إلَى الْقَيِّمِ لَا تَكُونُ لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْرِطْ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي شَرْطُ الْوَقْفِ فَلَا تَبْقَى لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ هَذَا التَّسْلِيمِ، إلَّا إنْ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ التَّسْلِيمُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَانَ الْوِلَايَةُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهَا، وَمِثْلُ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مَذْكُورٌ فِي التَّتِمَّةِ وَالذَّخِيرَةِ، وَالْآخَرُ أَنَّ مَعْنَى قول مُحَمَّدٍ إنْ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ فَهِيَ لَهُ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ يَسْقُطُ شَرْطُ التَّسْلِيمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ تُرَاعَى، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ سُقُوطُ التَّسْلِيمِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: كَذَا وَجَدْت فِي مَوْضِعٍ بِخَطِّ ثِقَةٍ، وَقَدَّمْنَا فَرْعًا آخَرَ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ الَّذِي جَعَلَهُ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ بِقولهِ (وَلَنَا أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ إنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ بِشَرْطِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُهَا مِنْهُ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ اسْتِفَادَةَ الْوِلَايَةِ مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ التَّسْلِيمِ شَرْطًا؛ لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمِ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ فَيَصِيرُ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، فَيَجِبُ كَوْنُ الْوِلَايَةِ فِيهِ لِلْحَاكِمِ يُوَلِّي فِيهِ مَنْ شَاءَ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يَسْأَلْ الْوِلَايَةَ فِي الْوَقْفِ، وَلَيْسَ فِيهِ فِسْقٌ يُعْرَفُ بِنَاءً عَلَى خُلُوصِ الْحَقِّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّ الْحَاكِمَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ تَخْرِيجٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فَلَا بُدَّ لِكَوْنِ الْوِلَايَةِ لَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ مِنْ دَلِيلٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَهَا لِنَفْسِهِ، وَقَدْ يَتِمُّ قولهُ (وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْوَقْفِ فَكَانَ أَوْلَى بِوِلَايَتِهِ) دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَيْهِ وَالْفَرْضُ أَنَّ الْوَاقِفَ عَدْلٌ مَأْمُونٌ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ زَالَ الْمِلْكُ فَهُوَ عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ لِلْوَاقِفِ يَصْرِفُهُ إلَى الْجِهَاتِ الَّتِي عَيَّنَهَا، وَهُوَ أَنْصَحُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَيَنْتَصِبُ وَلِيًّا.
وَقولهُ (كَمَنْ اتَّخَذَ مَسْجِدًا كَانَ أَوْلَى بِعِمَارَتِهِ وَنَصْبِ الْمُؤَذِّنِ، وَكَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ) أَمَّا عِمَارَتُهُ فَلَا خِلَافَ يُعْلَمُ فِيهِ، وَأَمَّا نَصْبُ الْمُؤَذِّنِ وَالْإِمَامِ فَقَالَ أَبُو نَصْرٍ فَلِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَلَيْسَ الْبَانِي أَحَقَّ مِنْهُمْ بِذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافِ: الْبَانِي أَحَقُّ بِنَصْبِهِمَا مِنْ غَيْرِهِ كَالْعِمَارَةِ.
قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: وَبِهِ نَأْخُذُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ إمَامًا وَمُؤَذِّنًا وَالْقَوْمُ يُرِيدُونَ الْأَصْلَحَ فَلَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، كَذَا فِي النَّوَازِلِ (ثُمَّ إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ، وَكَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَى الْوَقْفِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَهُ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ، كَمَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْوَصِيَّ نَظَرًا لِلصِّغَارِ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَيْسَ لِسُلْطَانٍ وَلَا لِقَاضٍ أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْهُ وَيُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ) لَا يُلْتَفَتُ إلَى شَرْطِهِ إذَا كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَبْطُلُ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ مِمَّا يَخْرُجُ بِهِ النَّاظِرُ مَا إذَا ظَهَرَ بِهِ فِسْقٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ جَعَلَ الْوَاقِفُ وِلَايَةَ الْوَقْفِ إلَى رَجُلَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَوْصَى أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ فِي أَمْرِ الْوَقْفِ وَمَاتَ جَازَ تَصَرُّفُ الْحَيِّ فِي جَمِيعِ الْوَقْفِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا.
وَفِيهَا لَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ وَقْفًا فَمَرَضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَجَعَلَ رَجُلًا وَصِيَّ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ أَمْرِ الْوَقْفِ شَيْئًا فَإِنَّ وِلَايَةَ الْوَقْفِ لَا تَكُونُ إلَى الْوَصِيِّ، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ وَصِيِّ فِي أَمْرِ الْوَقْفِ خَاصَّةً قَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ كَمَا قَالَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ وَصِيٌّ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.